(الإرهاب صهيوني).. هذه هي القضية وكفاح الشعب الفلسطيني.. ليس إرهابا

TT

نعوم تشومسكي، مفكر أميركي بارز، له كتابات كثيرة عن (الإرهاب) وتعريفاته، وقد اورد في كتابه (القراصنة والأباطرة) قصة ذات مغزى، كما سجل في (تواريخ الانشقاق) نقطة او فكرة ذكية الدلالة.

اما القصة فهي: ان (القديس أوغسطين) وصف مواجهة جرت بين الامبراطور الكسندر الكبير وبين قرصان كان ألقي القبض عليه.. سأل الكسندر الكبير القرصان: كيف تجرؤ على المضايقة في البحر؟. التفت القرصان الى الكسندر وقال له: وأنت كيف تجرؤ على مضايقة العالم بأسره؟!. ان لدي قاربا صغيرا، ولهذا السبب اطلق علي لقب لص. اما انت فلديك اسطول، ولهذا السبب اطلق عليك لقب امبراطور. وخلص اوغسطين الى ان جواب القرصان كان محقاً.

اما النقطة او الفكرة التي سجلها نعوم في (تواريخ الانشقاق) فهي: «ان مصطلح (الارهاب) يستخدم على نطاق واسع بما يمكن ان يطلق عليه (الارهاب الجزئي): ارهاب الجماعات الصغيرة، والجماعات المهمشة، ولا يطلق على ارهاب الدولة القوية... ولقد قامت اسرائيل بقصف مقار منظمة التحرير في تونس، وقتلت حوالي 75 شخصا، مستخدمة في ذلك قنابل (سمارت). وهذا امر بغيض تماما. ولكن نحن نعتبر عنفنا ليس إرهاباً، وانما نعتبر ان رد الآخرين هو الارهاب».

ونحن مضطرون، في زحمة المفردات المضللة، والمصطلحات التي تُصنع، وتُصك ابتغاء التلاعب باللغة السياسية، وبهدف قلب الحقائق، وتحريف المفاهيم، نحن مضطرون ـ والحالة هذه ـ الى اعادة (تكييف قضية الصراع بين المؤسسة الصهيونية وبين العرب) ومع الفلسطينيين بوجه خاص.

والقضية اولا هي: ان المؤسسة الصهيونية قد احتلت ارض الفلسطينيين على مرحلتين: المرحلة الاولى عام 1948.. والمرحلة الثانية عام 1967، وعلى كره تركزت الجهود على تحرير الارض الفلسطينية من الاحتلال الثاني، بموجب قرار دولي مجمع عليه وهو القرار 242 الذي ينص على «جلاء القوات الاسرائيلية من الأراضي التي احتلتها في النزاع الاخير»، اي حرب عام 1967.

والقضية ثانيا: ان المحتل لم يجل عن الأرض التي احتلها منذ اكثر من ثلاثين عاما، بل زرع فيها مستوطنات تبقي على آثار الاحتلال ابدا، ثم اضاف الى ذلك جريمة ثالثة وهي: قهر الشعب الفلسطيني، وحصاره، وتجويعه، وقتله واغتياله.

والقضية ثالثا هي: ان هذا الشعب المقهورة ارادته، المحتلة ارضه، المحاصر في حركته ومعيشته، قد تنادى لدفع الظلم عن نفسه، ومقاومة المحتل.

والقضية رابعا هي: ان مقاومة المحتل حق لكافة الشعوب: أقره ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي، والاعلان العالمي لحقوق الانسان، وشرعة الحقوق المدنية والسياسية، كما اقرته السوابق التاريخية التي سجلت كفاح الأمم ضد مستعمريها، ومحتلي ارضها: السوابق الاميركية، والاوروبية، والآسيوية، والأفريقية.

وخلاصة التكييف للقضية هي: ان كفاح الشعب الفلسطيني ضد محتلي ارضه ليس (ارهابا) قط، وإنما هو (كفاح مشروع) من اجل الحرية والاستقلال.

ومن الظلم، ومن الخروج على السوابق الشريفة في كفاح الشعوب، ومن الانتهاك الفظيع للمواثيق الدولية، ومن التضليل الاعلامي، والإفك اللغوي، واللؤم السياسي ان تطلق كلمة (إرهاب) على كفاح الشعب الفلسطيني.

وانه لمن الحق والعدل والاستقامة: الاعلامية والسياسية واللغوية: ان تطلق كلمة (إرهاب) على (عدوانية) المؤسسة الصهيونية. فهذه المؤسسة مارست وتمارس الارهاب ـ بمعناه العلمي الدقيق... فقد مارسته وهي تحتل الأرض، وتستجلب المستوطنين وتزرعهم فيها، ومارسته وهي تحاصر الشعب الفلسطيني وتجوعه، ومارسته وهي تقتل المدنيين بالطائرات والدبابات، ومارسته وهي تباشر الاغتيال وتعترف به. وإرهاب المؤسسة الصهيونية في الارض المحتلة ليس سلوكا طارئا، ولا تصرفا مؤقتا، بل هو (فلسفة) اعتنقها الكيان الصهيوني قبل ان يكون في فلسطين، وبعد ان كان. وهي فلسفة تبناها وباشرها: فلاديمير جابوتنسكي. ومناحيم بيغن، واسحاق شامير، واسحاق رابين، ونتنياهو، وايهود باراك، وارييل شارون، وهذا دليل على ان هؤلاء الناس قد تواصوا بالارهاب دوما: كلما هلك او غاب منهم ارهابي، خلفه إرهابي جديد.. ومن الأدلة التفصيلية العملية على ذلك: ان اول تحية وجهها اليمين اليهودي الى العرب، والى الفلسطينيين بخاصة، حين وصل الى السلطة عام 1996 هي اغتيال الشاب الفلسطيني (داود الشويكي) في القدس. وها هي اول تحية يوجهها اليمين الصهيوني الى العرب والفلسطينيين، حين وصل الى السلطة في هذه الأيام: اغتيال مسعود عياد في غزة.

ان الفرصة قد تهيأت لفتح (الملف الصهيوني الارهابي) كله. فإن من شأن فتح هذا الملف: ان يصحح مفاهيم الرأي العام العالمي، وان يضع القضية في اطارها الطبيعي الصحيح: اطار ان (الكيان الصهيوني هو الإرهابي)، وليس العرب، ولا الفلسطينيون.

وهذه هي اعظم وأعجل مسؤولية: دبلوماسية وسياسية وفكرية واعلامية. منوطة بالعرب في هذه الظروف. ومما يوجب القيام بهذه المسؤولية:

1 ـ اعادة التوازن الى الصراع، في جانبين: السياسي والإعلامي، على الأقل، فالخلل ليس محصورا في الجانب العسكري، اذ حرصت المؤسسة الصهيونية على الاكتساح في مجال (التفوق النفسي والسياسي والاعلامي). وهو حرص عزز بـ(نشاط) مكثف ومثابر في هذا الميدان.. ومن صور هذا النشاط المكثف ـ مثلا ـ: تنشيط التحالف الهندي ـ الاسرائيلي، وتعزيز التحالف التركي ـ الصهيوني، والتنسيق الروسي ـ اليهودي على تنظيم مقاومة مشتركة لما سمياه بـ(الأصولية الاسلامية)، واجراء مراجعة شاملة لمبادئ استراتيجية الجيش الصهيوني بهدف (تجديد العقيدة العسكرية) وتعزيزها.. ولئن مورس هذا النشاط الواسع في فترة قريبة سابقة، فان صور النشاط الراهن الناجز تتمثل في: الاتصالات الصهيونية العاجلة بالادارة الاميركية، حيث التقى الوفد الصهيوني بـ(تشيني) ـ نائب الرئيس الاميركي، وبـ(رايس) مستشارة الرئيس الأميركي للأمن القومي.. والاتصال الصهيوني العاجل بالرئيس الفرنسي (شيراك) وأركان حكومته، والاتصال الصهيوني السريع بالحكومة البريطانية، ومن هذه الصور كذلك: لقاء وفد موسع من المنظمات اليهودية الاميركية بمستشار المانيا ووزير خارجيتها. وهو وفد يباشر مهمة محددة وهي: (توفير إسناد لاسرائيل). وللوفد مهمة اوسع تمتد لتشمل دولا اوروبية اخرى.. ولقد بعث شارون برسائل الى عدد كبير من زعماء العالم. ويلحظ ان هذا النشاط كله قد بوشر بعد فوز شارون برئاسة الوزراء في المؤسسة الصهيونية.

وإعادة التوازن الى الصراع ـ في جانبيه: السياسي والاعلامي ـ تتطلب نشاطا عربيا متوثبا، ان فاته التفوق على النشاط الصهيوني، فلا يفوته (التعادل) في هذه المباراة الكبرى المفتوحة.

والنشاط العربي المطلوب لا يتضمن (طلقة) رصاص واحدة، اي انه نشاط يقع في دائرة (الكفاح السلمي)، وهو كفاح ليس هناك عربي واحد ـ على المستوى الشعبي او على المستوى الرسمي ـ يعذر بتركه او التثاقل عنه.

ان العرب اذا هم تثاقلوا عن هذا الكفاح السلمي، فانهم يجعلون (كسلهم) ـ بمحض ارادتهم ـ (جندا) من جنود العدو الصهيوني: جندا يخدم المؤسسة الصهيونية دون ان تبذل اي جهد او مال او وقت في سبيل ذلك!! 2 ـ ومما يوجب القيام بهذه المسؤولية: التبدل النوعي النسبي في الظروف السياسية الدولية: مضمونا ومناخا ولغة.. من هذه الظروف:

أ ـ ان رئاسة المفوضية الاوروبية استنكرت اغتيال (مسعود عياد) في غزة، وقالت: «ان هذه عملية قتل خارجة عن القانون. وان الاتحاد الاوروبي يؤكد على موقفه الذي يتشبث به، وهو: ان سياسة اسرائيل في هذا الشأن غير مقبولة، وتخالف حكم القانون. وان ما يسمى بالتصفية هو عقبة في طريق السلام، ويثير المزيد من اعمال العنف. وان الاتحاد الاوروبي يحث اسرائيل على وقف تلك الممارسات، كما يحثها على احترام القانون الدولي».

ب ـ الموقف الاميركي الذي مال ـ بوضوح ـ الى التوازن. وهو موقف تسنده قرائن عديدة، منها: ان وزارة الخارجية الاميركية نددت بجريمة قتل عياد مسعود، وحذرت من ان اطلاق دائرة العنف والعنف المضاد اتجاه خطر، قد يكون من المستحيل وقفه.. والقرينة الثانية هي: ان (كوندوليزا رايس)، مستشارة الرئيس الأميركي للأمن القومي، قالت للوفد الصهيوني الزائر: ان الضرورة تدعو الى تحسين الوضع الاقتصادي والمعيشي للفلسطينيين. وأتم (كولن باول) ـ وزير الخارجية ـ هذه الجملة فقال للوفد نفسه: «لا بد من تخفيف الضغوط الاقتصادية على الفلسطينيين، وإفراج اسرائيل عن عائدات الضرائب الفلسطينية». وانتقد في هذا السياق اعمال جرف قامت بها السلطات الاسرائيلية قرب مستوطنة نتساريم. والقرينة الثالثة هي: انزعاج الوفد الصهيوني من النبرة الجديدة في واشنطن: نبرة التوازن، والنظرة الى الصراع بعيون اميركية وطنية، لا بعيون صهيونية.

ج ـ ان لدى العالم ـ في الجملة ـ صورة واضحة عن شخصية شارون الارهابية الدموية، وهي صورة تعين على نجاح الحملة العربية المقترحة: السياسية والدبلوماسية والاعلامية.

بيد ان هذا النشاط العالمي المطلوب لا يغني، وليس هو بديلا عن مسؤولية اخرى كبرى وناجزة: مسؤولية دعم الشعب الفلسطيني بالمال وكافة المواد العينية: المعيشية والدوائية والكسائية...الخ.

لقد اثبت هذا الشعب انه شعب اصيل كريم يستحق الحياة، اذ هو يدافع عن حياته بشرف وشموخ وثبات. وشعب هذا معدنه وهذه عزته، ليس من المروءة: الاكتفاء بموقف التفرج على ما يجري له. بل يتوجب عونه بتوسع وهمّة واستمرار ومحبة.