الحريري نصح لحود بعدم تكليفي تشكيل الحكومة لأنني «عنيد ورأسي يابس»

TT

استعرض رئيس الحكومة اللبنانية السابق الدكتور سليم الحص في توثيقه الجديد لآخر تجاربه في الحكم بين العامين 1998 و2000، والذي صدره بعنوان «للحقيقة والتاريخ»، في الحلقات السابقة قصة نهاية العمل السياسي وبداية العمل الوطني، ويرى ان المال جعل الساحة الانتخابية اللبنانية اشبه بسوق نخاسة تباع فيها الضمائر وتشترى. ومن خلال هذه الزاوية كان الحص يعتقد ان المعركة الانتخابية الاخيرة الاشرس والاوسخ في تاريخ الانتخابات اللبنانية. ويؤكد ان حكومته قضت على بدعة «ترويكا الحكم» الى الابد وانها اعطت الدليل على ان العملة اللبنانية لا ترتبط بشخص معين، وان اعظم انجاز حققه لبنان في عهد حكومته هو تحرير الجنوب والبقاع الغربي. كما تطرق الحص الى العلاقة بينه وبين رئيس الجمهورية ويقول «لو كان في لبنان رجل واحد لاطائفي فهو اميل لحود»، كما تحدث الحص عن العلاقة بينه وبين سورية، وقال لقد شرحت للرئىس السوري الراحل حافظ الاسد اسباب عدم قبولي التحالف مع الحريري فلقيت منه تفهما وقبولا. وفي هذه الحلقة يتحدث الحص عن الاجواء السياسية التي صاحبت تكليفه من طرف الرئيس لحود بتشكيل الحكومة، وقال ان الحريري نصح لحود بعدم تكليفي بذلك لانني حسب رأي الحريري «عنيد ورأسي يابس». وفي ما يلي الحلقة السادسة.

تسلّم العماد أميل لحود مهام رئاسة الجمهورية في 24 تشرين الثاني (نوفمبر)، وكان قد انتخب باجماع النواب الحاضرين جلسة الانتخاب، حائزاً على 118 صوتاً. وألقى يومها خطاباً تاريخياً في الجلسة النيابية التي أقسم فيها اليمين الدستورية، عرض فيه رؤيته العامة للسياسة التي يعتزم انتهاجها في سنوات ولايته، وعرف هذا الخطاب بخطاب القسم. وكانت لهذا الخطاب أصداء سياسية وشعبية مدويّة.

في اليوم التالي زاره في قصر بعبدا رئيس مجلس الوزراء المستقيل رفيق الحريري، وحدّد الرئيس مواعيد الاستشارات النيابية الملزمة التي تنصّ عليها المادة 53 من الدستور لتسمية رئيس للحكومة الأولى في عهده. في 26/11/1998 بدأ الرئيس لحود استشاراته مع النواب فاستمرت يومين متتاليين. وكنت، بصفتي نائباً ورئيساً للوزراء سابقاً، بين أوائل الذين استشارهم. فصرّحت عند خروجي من لقائي معه بالقول: «بحثت مع فخامة الرئيس في موضوع الاستشارات، وفي النتيجة لم أُسمِّ شخصاً معيناً لرئاسة الوزراء لأنه من جهة ليس لدي مرشح معيّن، ومن جهة ثانية يهمّني أن أبقى منسجماً مع نفسي باعتبار أنني كنت طوال السنوات الماضية في صفّ المعارضة». في مرحلةٍ سابقة، مع اقتراب موعد الاستشارات الملزمة، احتدم النقاش في الأوساط النيابية والسياسية حول ما اذا كانت الاستشارات التي تنصّ عليها المادة 53 من الدستور مُلزمة بنتائجها أم هي الزامية باجرائها فحسب. فكان هناك من يقول أنّ الاستشارات الزاميّة باجرائها ومُلزمة بنتائجها، وكان هناك من يقول أنّها الزاميّة باجرائها الا أنّها ليست مُلزمة بنتائجها، بمعنى أنّ رئيس الجمهورية ليس مُجرّد صندوق بريد، وحرّيته في اختيار رئيس الوزراء تبقى محفوظة بعد أن يطلع على آراء النواب. في حمأة ذلك السجال أدليت في 12/11/1998 بتصريح قلت فيه: «انّنا نَستغرب استمرار السجال حول الزامية الاستشارات النيابية التي يجريها رئيس الجمهورية لتسمية رئيس الوزراء المُكلّف، ونحن لا نرى مجالاً للشكّ في أن المقصود بالاستشارات المُلزمة أن تكون الزامية ليس باجرائها فحسب بل ملزمة بنتائجها أيضاً. أما تبريرنا لهذا الموقف فيستندّ الى اعتبارين على الأقلّ: الأول هو أنّ هذا ما كان فِعلاً في جميع الاستشارات التي أُجريت منذ اتفاق الطائف، وكانت منها خمس جولات. فلماذا الخروج عن هذا العُرف هذه المرة؟ لماذا، بعبارةٍ أخرى، لا يصحّ على الجولة السادسة من الاستشارات (منذ اتفاق الطائف) ما يصحّ على الجولات الخمس السابقة؟ والاعتبار الثاني هو أنّ خيار الاستشارات المُلزمة اعتُمد بدلاً من فكرة كانت قد طُرحت على المؤتمرين في الطائف (في عام 1989) وهي فكرة انتخاب رئيس الوزراء مُباشرةً في مجلس النواب. ثم انّه لا معنى عملياً لالزاميّة الاستشارات ان لم تكُن مُلزمة بنتائجها. «بالطبع ليس هناك ما يمنع النائب من الامتناع عن ترشيح شخصٍ مُعيّن لرئاسة الوزراء فلا يُحسَب صوته في هذه الحال في تعداد الأصوات التي يحصل عليها أيٍّ من المرشّحين. ولكن النائب اذا اختار استعمال حقّه في الترشيح فعليه أن يُسمّي شخصاً مُحدّداً. علماً أنّ ابدال خيار الانتخاب المباشر بخيار الاستشارات المُلزمة من شأنه أن يفسح في المجال أمام رئيس الجمهورية للتأثير في قرارات النواب لدى استشارتهم (بذلك لا يعود بمثابة صندوق بريد). »أعتقد أنّ المصلحة تقضي برفع هذا الموضوع من التداوُل اذ أنّ في متابعته افتعالاً لخلاف نحن في غِنى عنه في الوقت الحاضر». ظهرت الصحف في 28/11/1998 وفي صدرها أخبار تفيد أنّ الاستشارات النيابية انتهت لكن التكليف تأخَر بسبب تجدّد السجال حول المادة 53 من الدستور ولا سيما ما يتعلّق منها بامكانيّة تفويض النواب الى رئيس الجمهورية تسمية الرئيس المكلّف. وترافق هذا التبايُن في الرأي مع التباس حول احصاء الأصوات التي نالها الرئيس رفيق الحريري في هذه الاستشارات. فقد جاء في «الوكالة الوطنية للاعلام» الرسمية أنّ حصيلة الاستشارات أظهرت أنّ 62 نائباً سَمّوا الحريري صراحةً وأنّ الباقين لم يُسمّوه، بينهم كتلة الرئيس نبيه بري (19 نائباً). ولكن كتلة حزب البعث (نائبان) أعلنت مساءً أنّها رشّحت الحريري، وهكذا ارتفعت الحصيلة الى 64 نائباً سَمّوه علناً، ثم أعلنت كتلة رئيس مجلس النواب نبيه بري (19 نائباً) أنّها ضمّت أصواتها الى أصوات الذين رشّحوا الحريري، فغدا المجموع 83 صوتاً. في 27/11/1998، وبعد انتهاء الاستشارات استقبل الرئيس لحود عند الثالثة بعد الظهر رئيس مجلس النواب نبيه بري وأطلعه في لقاء دام ساعة على حصيلة الاستشارات وتداولا نتائجها. وبعد مغادرة الرئيس بري قصر بعبدا وصل الرئيس الحريري وعقد ولحود اجتماعاً استمر نصف ساعة، غادر بعده الحريري من دون الادلاء بأي تصريح. بلغت أزمة التكليف ذروتها باعلان الرئيس الحريري عبر وكالة رويترز ووكالة الصحافة الفرنسية مساء 29/11/1998 أنه، في لقائه الأخير مع رئيس الجمهورية قبل يومين، اعتذر عن عدم قبول التكليف لأنه رأى أنّ الاستشارات تُشكّل بالصورة التي جرت مخالفة دستورية تكمن في تفويض 31 نائباً الى رئيس الجمهورية اختيار من يشاء لرئاسة الحكومة. وواجهت الأزمة طريقاً مسدودة حيال الخلاف على تفويض 31 نائباً الى رئيس الجمهورية في الاستشارات أمر تسمية رئيس الحكومة المقبلة، وهو أمرٌ اعتبره الرئيس الحريري مخالفة دستورية. الرئاسة تقبل اعتذار الحريري صدر في 30/11/1998 عن رئاسة الجمهورية بيان بقبول اعتذار الرئيس الحريري عن عدم قبول التكليف بتشكيل الحكومة الجديدة، واثر صدور بيان رئيس الجمهورية بقبول الاعتذار وصل الرئيس الحريري الى قصر بعبدا والتقى الرئيس لحود مُدّة ربع ساعة، وخرج من دون الإدلاء بأي تصريح. وصدر على الأثر عن المديرية العامة لرئاسة الجمهورية برنامج مواعيد الاستشارات الجديدة والتي تقرر أن تبدأ في اليوم التالي.

مساء ذلك اليوم تلقّيت من الرئيس نبيه بري اتصالاً هاتفياً أَبلغَني خلاله بأنه يعتزم ترشيحي للتكليف. وصدرت الصحف في اليوم التالي وكلّها ترجّح تكليفي برئاسة الحكومة الأولى في عهد الرئيس لحود. كان للعالم القانوني الدستوري الكبير النائب السابق حسن الرفاعي رأي في ما جرى فقال لوكالة الأنباء المركزية في 30/11/1998: «انّ على رئيس الجمهورية أن يقوم باستشارات جديدة». واعتبر أنّ اعتذار الرئيس الحريري عن عدم قبوله تأليف الحكومة الجديدة «غنج سياسي»، مشيراً الى أنّ «المسألة سياسية وهي لا تقارب من قريب ولا بعيد دستوراً ولا قانوناً». في الواقع أنّ الاستشارات النيابية المُلزمة التي أجراها الرئيس السابق الياس الهراوي في 19/5/1995 لتسمية الرئيس الحريري نفسه لرئاسة الوزراء تخللها تفويض عدد من النواب الى رئيس الجمهورية حرية الاختيار، ومنهم الرئيس رشيد الصلح وفؤاد السعد ومصطفى سعد ومنصور البون ورشيد الخازن ومخايل الضاهر ونواب حزب اللَّه. مع ذلك لم يطعن الرئيس الحريري آنذاك بدستورية العملية. ثم انّ كثيراً من الكتل تتمثّل في الاستشارات برؤسائها أو ببعض أعضائها وهم مُخوّلون بالتحدّث باسم مجموع أعضاء كل كتلة. ألَيس هذا ضرباً من التفويض؟ روى الرئيس اميل لحود أمامي تفاصيل ما جرى بينه وبين الرئيس الحريري على هذا الصعيد، فقال في ما قال: عند انتهاء الاستشارات اتصل الرئيس لحود بالرئيس بري داعياً ايّاه الى لقاء، ولدى وصول الرئيس بري سأل عن مجموع ما حصل عليه الرئيس الحريري من أصوات، فقال له: 64 صوتاً. فقال رئيس مجلس النواب: «أضِف الى هذا الرقم أصوات كتلتي فيصبح العدد 83 صوتاً». وقد حصلتُ شخصياً على ثلاثة أصوات، وفوّض الباقون رئيس الجمهورية.

بعد ذلك حضر الرئيس الحريري مُتجهّماً، فقال له الرئيس: «مبروك، أنت الرئيس المكلّف». فسأل عن الأصوات التي حاز عليها، فقال له الرئيس: «وما أهمية ذلك. فقد أحرزت الأكثرية وأنت المُكلّف». فردّ الرئيس الحريري بعصبيّة قائلاً: «أُريد أن أَعرِف كم من الأصوات أَحرزت». فاستدعى رئيس الجمهورية مدير عام رئاسة الجمهورية محمود عثمان وطلب اليه أن يُطلع الرئيس الحريري على المحضر. فما أن اطلع على النتيجة حتى قال: «هناك خطأ ما. هذه النتيجة غير معقولة. ثم ما هذه البِدعَة التي تُسمّى تفويضاً». فطلب الرئيس لحود الى السيد محمود عثمان أن يُطلِع الرئيس الحريري على محضر الاستشارات التي أجراها الرئيس السابق الياس الهراوي في عام 1995 لتسمية الرئيس الحريري نفسه، وفيه ما فيه من التفويض. فما كان من الرئيس الحريري الا أن قال: «ينبغي اعادة الاستشارات. أنت يا فخامة الرئيس نلت 118 صوتاً عند انتخابك ولا يجوز أن يحصّل رئيس الوزراء أقلّ مما حصّل رئيس الجمهورية». فأجاب الرئيس لحود قائلاً: «أَنت حصلت على ما يُناهِز ثلثي مجموع أعضاء مجلس النواب، وقد أَمضيت في الحكم ستّ سنوات متتالية. هذا جيّد. فلو استفتيت النواب حولي بعد ستّة أشهر من وجودي في الحكم فانني سأكون سعيداً اذا حصلتُ على مثل ما حصلتَ عليه أنت بعد ست سنوات من ممارسة السلطة». فكرر الرئيس الحريري القول: «انّ التفويض مخالف للدستور، وينبغي اعادة الاستشارات». فردّ عليه الرئيس: «اليوم هو يوم جمعة. اذهب وخُذّ قسطاً من الراحة حتى يوم الاثنين وعُدّ اليّ لنبحث في الأمر». وبعد خروج الرئيس الحريري اتّصل الرئيس لحود بالرئيس بري وطلب اليه اقناع الرئيس الحريري بقبول نتائج الاستشارات لأنه يريد تكليفه تشكيل الحكومة بكل صدقٍ وأمانة. فاذا بالرئيس الحريري يشنّ يومي السبت والأحد حملة اعلامية ترويجاً لوجهة نظره، وصرّح لمحطّة أم بي سي ومحطّة «سي.إن.إن» أنّ الرئيس لحود خالف الدستور. فاعتبر الرئيس هذا الموقف بمثابة رفض للتكليف فقرر اعادة الاستشارات. صباح الاثنين في 30/11/1998 استدعى الرئيس لحود الرئيس الحريري. وعند حضوره وجّه كلامه الى الرئيس لحود سائلاً: «هلّ صحيح ما سمعته عبر اذاعة صوت لبنان من أَنّك قبلت اعتذاري». فأجاب: «أَنتَ اتّهمتني بأنني خالفت الدستور، وأَنتَ أَعلنت أمام وسائل الاعلام أَنّكَ ترفض نتائج الاستشارات وأَنّكَ مُعتذِر». سأل الرئيس الحريري «بمن تُفكِّر الآن». فأجاب الرئيس لحود: «الرئيس الحص». فقال الحريري: «اسمع مِنّي وأصرِف النظر عنه. فكل الذين تعاملوا معه قبلك لم يتحمّلوه لأنه عنيد ورأسه يابس». أجرى الرئيس لحود استشارات نيابية جديدة فنلت 95 صوتاً من أصوات النواب. وقد امتنعت كتلة الرئيس الحريري وكتلة وليد جنبلاط عن تسمية مرشح لرئاسة الوزراء. استدعاني الرئيس لحود وكلّفني تشكيل الحكومة. ولدى خروجي من قصر بعبدا أَدليت بتصريحٍ قلت فيه: «كَلّفني فخامة الرئيس تأليف حكومة العهد الأولى بناءً على الاستشارات التي أجراها مع السادة النواب. وانني أشكر فخامته على الثقة التي أولاني اياها، وأشكر لزملائي النواب ثقتهم أيضاً. سننطلق في عملنا من الخطاب الذي أدلى به فخامة الرئيس اثر أدائه القسم الدستوري، وسوف نلتزم كل القيم والمفاهيم والثوابت الوطنية التي آمنّا بها ونؤمن. أمامنا تحديات كبيرة وقضايا كثيرة علينا أن نتصدّى لها، ونرجو أن يوفّقنا اللَّه في تأليف حكومة تكون على مستوى التحدّي ومتجاوبة مع آمال الناس ومُلبّية لحاجاتهم». وردّاً على سؤال قلت: «القضايا التي نواجهها في هذه المرحلة كثيرة، ولا شكّ، بحسب اعتقادنا، في أنّ عجز الموازنة هو مركز الاهتمام، لأننا نعتبر هذا العجز مصدراً لكثيرٍ من العلل التي يشكو منها الاقتصاد الوطني اللبناني، ومنها حالة الركود التي يعاني منها. العجز اذ يؤدّي الى ارتفاع معدلات الفائدة في السوق يشكل سبباً لكبح النشاط الاقتصادي الذي يرتبط بحركة الاستثمار في البلاد. كما أنّ عجز الموازنة جعل من الدولة مُزاحماً للقطاع الخاص على مُدخرات المجتمع. فعوض أن تنصرف المدخرات للاستثمار في القطاعات الانتاجية فتُحرّك الاقتصاد الوطني، فهي تتجه نحو الاستثمار في سندات الخزينة أو الودائع المصرفية. ولا ننسى أن هناك قضية المهجرين، ونحن نطمح الى عودة المهجرين الى ديارهم».

وفي ذلك اليوم نقل زوار الرئيس نبيه بري في اللقاء النيابي الذي يعقده عادةً صباح كل أربعاء، عنه قوله: «خرجنا من الحصص ليدخل الحص». وأكّد أن رئيس الجمهورية العماد اميل لحود ورئيس الحكومة المكلف سليم الحص سيضمنان حقوق الجميع. وفي 3/12/1998 بدأت باجراء استشارات نيابية تمهيداً لتشكيل الحكومة، واستكملتها في اليوم التالي. وتوجّهت على الأثر الى قصر بعبدا الذي وصلته عند الخامسة والنصف بعد الظهر، وعقدت مع الرئيس لحود اجتماعاً دام ساعة، أعلنت على أثره ولادة الحكومة الجديدة، وصرّحت بالقول: «ليس في الحكومة تمثيل حزبي على الاطلاق، وهي مختلطة بين وزراء نواب ووزراء تكنوقراط. وقد راعينا بطبيعة الحال التوزيع المناطقي والطائفي». ولو أدخلنا في الحكومة أي حزبي لكان علينا أن نُمثّل فيها سائر الأحزاب، وما كان في نيتنا تأليف حكومة موسّعة. وقد آثرنا عدم ادخال الأحزاب خوفاً من أن يؤدّي اشراكها الى العودة لأجواء المحاصصة في مختلف شؤون الحكم. وقد نصّ مرسوم تأليف الحكومة على تعيين سليم الحص رئيس مجلس الوزراء وزيراً للخارجية، ميشال المر نائباً للرئيس ووزيراً للداخلية ووزيراً للشؤون البلدية والقروية، محمد يوسف بيضون وزيراً للتربية الوطنية والشباب والرياضة ووزيراً للتعليم المهني والتقني ووزيراً للثقافة والتعليم العالي، سليمان فرنجية وزيراً للزراعة ووزيراً للاسكان والتعاونيات، أنور الخليل وزيراً للاعلام ووزيراً لشؤون المهجرين، غازي زعيتر وزيراً للدفاع الوطني، ميشال موسى وزيراً للعمل ووزيراً للشؤون الاجتماعية، عصام نعمان وزيراً للبريد والمواصلات السلكية واللاسلكية، سليمان طرابلسي وزيراً للموارد المائية والكهربائية ووزيراً للنفط، حسن شلق وزير دولة للاصلاح الاداري، جورج قرم وزيراً للمالية، ناصر السعيدي وزيراً للاقتصاد والتجارة ووزيراً للصناعة، أرتير نازاريان وزيراً للسياحة ووزيراً للبيئة، نجيب ميقاتي وزيراً للأشغال العامة ووزيراً للنقل. لقد كان الوزراء محمد يوسف بيضون وعصام نعمان وحسن شلق وناصر السعيدي من اختياري شخصياً، ورشّحت الوزيرين ميشال موسى وغازي زعيتر باعتبار أن الرئيس بري لا يعترض عليهما مع أنهما ليسا من حركة أمل، وكان توزير الدكتور كرم كرم ونجيب ميقاتي برغبة سورية، ورحّبت شخصياً بتوزير جوزف شاوول لمعرفتي بقدرته وعلمه ونزاهته. وكان الرئيس رفيق الحريري قد عقد مؤتمراً صحافياً في 3/12/1998 قال فيه انّه لو كان مكاني لما قبل التكليف. فكان لي في اليوم التالي ردّ على ما جاء في مؤتمره الصحافي قلت فيه: لفتني في وقائع المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس رفيق الحريري ردّه على سؤال عمّا اذا كان تكليفي جاء في رأيه امتداداً لخرق الدستور، اذ قال «لو كنت مكان الرئيس الحص لما قبلت. انّ المسألة هي مسألة مبدأ». استغربت هذا الجواب، لأنني قبل يومٍ واحد كنت قد التقيت الرئيس الحريري في سياق الجولة التقليدية التي قمت بها على رؤساء الوزراء السابقين بعد تكليفي، فشرحت له الخطأ الذي وقع فيه عندما اعتذر عن عدم قبول التكليف رافضاً الحل الذي عرضه رئيس الجمهورية العماد اميل لحود. فكان جوابه ببساطة أنّ الأمر انتهى. وحتى لا يعلق في الأذهان أنّ قبولي التكليف يشكّل مخالفة دستورية أرى لِزاماً عليّ أن أشرح للناس أين كان خطأ الرئيس الحريري.

«انّ رأيي لا يختلف في شيء عن رأي الرئيس الحريري في ما يتعلّق بعدم جواز تفويض النواب الى رئيس الجمهورية تسمية المرشح لرئاسة الوزراء في الاستشارات، وقد قلت ذلك في تصريح أدليت به قبل أن يبدي الرئيس الحريري رأيه في هذا الشأن. ولكن رأيي هذا، وبالتالي رأيه، لا يحظى باجماع اللبنانيين، بدليل أنّ بعض النواب أدلوا بآراء مخالفة له، وكذلك كان رأي بعض فقهاء القانون. وبعد تفويض عدد من النواب الى رئيس الجمهورية في الاستشارات طرحت في بعض الصحف حلاً للاشكال الحاصل بالدعوة الى احتساب الذين قرروا التفويض في عداد الذين امتنعوا عن التسمية، وهذا يعني عدم استخدام رئيس الجمهورية التفويض المعطى له، وهذا ما فعله رئيس الجمهورية في الواقع، فاشترط الرئيس الحريري أن يقرن رئيس الجمهورية هذا الاجراء بتسجيل عدم دستورية أصوات الذين فوّضوا، وهُنا خطأ الرئيس الحريري. ذلك لأن رئىس الجمهورية ليس المرجع الصالح لتفسير الدستور في ظل الخلاف الحاصل حول مفهوم المادة 53 منه. فالمرجع الوحيد الصالح لتفسير نصوص الدستور هو مجلس النواب، وليس هناك أدنى مصلحة في عرض الموضوع على مجلس النواب لأنّ ذلك يمكن أن يقود الى انقسامات طائفية ومذهبية في مجلس النواب أقلّ ما يقال فيها أنها غير مضمونة النتائج. لذلك قلت للرئيس الحريري شخصياً (خلال الجولة التقليدية التي قمت بها على رؤساء الوزراء السابقين اثر تكليفي) أنه كان يجب أن يكتفي باعتبار الذين فوّضوا الرئيس في عداد الذين امتنعوا عن التسمية. ولم يعترض الحريري على قولي هذا بل قال ان الأمر أضحى الآن مقضيّاً». كان اعلان الرئيس الحريري أنه لو كان مكاني لما قبل رئاسة الوزراء بمثابة الشرارة الأولى التي أطلقها ايذاناً بشنّ حملة من ترويج الشائعات لا هوادة فيها ضدّي محورها مقولة أنني فرّطت بمصالح المسلمين السنّة. وقد غذّت وسائل الاعلام التي يملكها وتلك التي يهيمن عليها، وما أكثرها، هذه الحملة بأساليبها الخاصة. وقد استمرّت هذه الحملة طيلة وجودي في الحكم بأشكال مختلفة. في اليوم التالي لاعلان ولادة الحكومة، أي في 5/12/1998 اجتمعنا في القصر الجمهوري لأخذ الصورة التذكارية ثم عقدنا أول اجتماع لمجلس الوزراء شكّلنا خلاله لجنة لصياغة البيان الوزاري قوامها رئيس مجلس الوزراء رئيساً ومعه الوزراء ميشال المر، محمد يوسف بيضون، عصام نعمان، جورج قرم، ناصر السعيدي. وبعد جلسة مجلس الوزراء عقدت لجنة الصياغة أول اجتماع لها. في 11/12/1998 عقد مجلس الوزراء جلسة طويلة وافق خلالها على البيان الوزاري. واثر الجلسة مباشرةً تحدّثت هاتفياً مع الرئىس بري وأبلغته استعداد الحكومة للمثول أمام مجلس النواب لنيل ثقته.

في هذه الأثناء كانت اسرائيل تُنفّذ يومياً غارات وهمية تخرق فيها جدار الصوت فوق العاصمة بيروت وسائر المناطق مروعة السكان المدنيين الآمنين. فكتبنا الى الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان نشعره بذلك مستنكرين. وقد قام الأمين العام بتحرّك فوري واجتمع الى شارون في نيويورك وتوقّفت الغارات الوهميّة.

أشباه رجال يوم الأربعاء في 16/12/1998 بدأت المناقشات النيابية للبيان الوزاري، فتحدث وليد جنبلاط بلهجة حادّة جداً ناعتاً بعض الوزراء بأنهم «أشباه رجال» وغامزاً من قناة رئاسة الجمهورية فوصف خطاب القسم بخطاب العرش، ودعا الى نقاش ديمقراطي حول الجيش. وتحدث عن كتلة الوفاء للمقاومة السيد ابراهيم أمين السيد فأعلن امتناع الكتلة عن التصويت على الثقة بالحكومة. بذلك ارتسمت خريطة معارضة نيابية ثلاثية قوامها كتلة الرئيس الحريري (12 نائباً) وكتلة وليد جنبلاط (جبهة النضال الوطني) (11 نائباً) وكتلة الوفاء للمقاومة (9 نواب). ولقد تعرّض وزير المالية الدكتور جورج قرم لحملة شنيعة في مداخلات بعض النواب وفي محطة تلفزيون «المستقبل»، تركّزت على مقاطع وردت في مؤلفاته بغية ابراز مواقف سلبية كانت له من الدور السوري في لبنان، وذلك بهدف احراجه. لم يحضر الرئيس الحريري جلسات المناقشة مُعللاً ذلك بأنّ «البيان غرق في التركيز على الماضي كما غرق في حسابات تنمّ عن كيديّة سياسية بدل أن يتوجّه الى المستقبل بكل تحدياته». كانت هذه ذريعته، أما الحقيقة فانّ موقفه انما يعبّر عن قراره بمعارضتي منذ لحظة قبولي التكليف. في نهاية المناقشات ارتجلتُ ردٍّاً على الانتقادات جاء فيه: أود أن أعرب عن تقدير الحكومة للمداخلات التي أدلى بها السادة النواب وأبدي احترامنا للذين انتقدونا وتحيتنا للذين أيدونا، فنحن نعتبر أن في الانتقادات التي وُجّهت الينا والى البيان الوزاري اشراقة ديموقراطية. سمعنا رداً من رموز الحكومات السابقة على بياننا الوزاري وقد رسم هذا الردّ صورة وردية زاهية عن الماضي وحمّل بياننا الوزاري من السلبية ما لا يحتمل، فقد كُنّا، وكثيرٌ منكم يشهدون، حريصين جداً على عدم المساس بأحد في هذا البيان وكُنّا مُهذّبين الى أبعد الحدود ومتحفّظين في ذكر من سلفنا، هذه الصورة الزاهية التي رسمت أمامنا، لم يرسم في مقابلها ما حفلت به عهود الحكومات الماضية من سلبيات، وكانت هذه السلبيات محور معارضتنا، محور الأسئلة التي كُنّا نوجهها للحكومة، ومحور الاستجوابات التي كُنّا نتقدّم بها، ومحور المواقف التي كُنّا ندلي بها داخل مجلس النواب وخارجه. وقيل أن البيان الوزاري أغفل بعض القضايا، وقد قلنا ذلك صراحةً في بياننا الوزاري، هناك فقرة في البيان الوزاري خصصناها للقول، ان المشكلات والقضايا التي عرضناها ليست كل المشاكل والقضايا التي تواجهنا، وان الحلول والمعالجات التي طرحناها ليست كل الحلول والمعالجات التي نملكها، واننا سنعقد اجتماعات متتالية في ما بيننا لوضع هذه البرامج الزمنية حسب الأصول. ركّزنا بشكل أساسي على بعض العناوين الأساسية التي تجسّد هموم الناس في هذه المرحلة، بعد قضية التحرير وقضية تأمين عودة المهجرين، ركّزنا على عجز الموازنة، ذلك لأننا نعتبر أنّ عجز الموازنة هو مكمن الداء في الاقتصاد الوطني اللبناني، يكاد يكون عجز الموازنة مصدر كل علّة في الاقتصاد الوطني اللبناني. وقد طرحنا في بياننا الوزاري طريق الخصخصة كامكانية لتعزيز موارد الدولة من أجل التخفيف من عبء الدين العام. الخصخصة حظيت بالكثير من النقاش في هذه الجلسات من قبل النواب الكرام، ومن حقهم أن يناقشوا هذه الفكرة لأنها لم تُنفّذ على نطاقٍ واسع في الماضي. الخصخصة لم نخترعها نحن، فقد سلكت طريق الخصخصة بلدان كثيرة قبلنا، منها بريطانيا، على نطاقٍ واسع، وفرنسا، ومنها مصر ودول شمال أفريقيا وكثير من دول أميركا اللاتينية، كلها مارست الخصخصة من أجل تصحيح أوضاعها المالية، وبالتالي لا يجوز رفض الخصخصة في المطلق، ولا يجوز القول بأن الخصخصة مرفوضة مبدئياً، يجب أن تناقش المجالات التي يمكن تطبيق الخصخصة فيها، فهي تعالج حالة فحالة، تناقش الخصخصة في كل حالة على حدة. ولكننا لن نترك الأمر عشوائياً، فقلنا في بياننا أننا سوف نعمد، وطلباً للشفافية في سياسة الحكومة حيال الخصخصة، الى احالة مشروع قانون على مجلسكم الكريم ينظم عملية الخصخصة ويحدد شروطها ويرسم اطاراً لها حتى تكون الأمور واضحة وصريحة، ومعروفة من الجميع، عند ذاك تناقش في مشروع محدد، ويناقش ما يمكن اخضاعه لعملية الخصخصة وما لا يمكن اخضاعه لها، وقد قلنا في بياننا الوزاري ان أية موارد قد نحصل عليها بنتيجة عمليات الخصخصة التي قد نجريها سوف تخصص للتخفيف من عبء الدين العام لأننا لا نجد طريقة أخرى، بصراحة، لكسر الحلقة المفرغة التي تحدّثنا عنها ونوّهنا بها في البيان الوزاري، هذه هي الطريقة الوحيدة لخلق موارد جديدة تكسر الحلقة المفرغة التي وقعت مالية الدولة فيها، والخصخصة لها اشكاليات. انها تقترن باشكاليات معينة، بالطبع هناك مخاوف مشروعة من أن تحوّل الاحتكار العام الى احتكار خاص، يعني أن يكون مرفق ما احتكاراً بيد الدولة، فيتحول الى احتكار في يد القطاع الخاص. كلمة سياسية سقطت سهوا انتقد البعض بيان الحكومة لجهة أنه تحدث عن الغاء الطائفية، وأنا عند تلاوتي البيان الوزاري أضفت كلمة «السياسية»، قلت الطائفية السياسية «لأن كلمة» سياسية سقطت سهواً في الطباعة. فالطائفية السياسية لم تأخذ مِنّا فقط عبارة في بيان وزاري، وانما هي ترد أيضاً في التزامنا وثيقة الوفاق الوطني نصاً وروحاً، في البند الذي يقول اننا سوف نستكمل تنفيذ بنود اتفاق الطائف. وبالطبع هذا يعني العمل على تجاوز الحالة الطائفية ولا نقول الغاءها، لأن الالغاء يكون بقرار أما التجاوز فيكون مساراً، المقصود هو العمل من خلال ما نصت عليه المادة 95 من الدستور وما قضت به من انشاء هيئة وطنية للعمل على تجاوز الحالة الطائفية في البلاد.

تساءل البعض أيضاً عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي وهذا تحصيل حاصل لم نذكره في بياننا الوزاري لأن القانون صدر بتأليف هذا المجلس ولسنا نحن المسؤولين عن عدم تنفيذه، صدر منذ سنوات ولم ينفّذ حتى الآن فنحن نلتزم تنفيذه. كانت هناك اشارات الى التوطين، التوطين مرفوض في الدستور ولا يزيد البيان الوزاري على الدستور أو ينقص منه شيئاً، التوطين مرفوض باجماع اللبنانيين.

تطرق البعض الى سنّ الانتخاب. كما ذكر الرئيس حسين الحسيني، لقد تقدم اللقاء الوطني النيابي باقتراح تعديل للدستور من أجل تخفيض سنّ الانتخاب الى 18، وأنا كنت أحد الموقعين على هذا الاقتراح. أما التعليم الديني الذي جاء ذكره على لسان البعض فنحن سنعالج هذا الموضوع ونجد الحلّ المناسب له. أخيراً نستغرب ما نسبه أحد السادة النواب الى وزير المال من قول يتعلّق بالشقيقة سوريا بغية احراجه، وهو مجتزأ، فاذا كان الدكتور قرم قد أبدى وجهات نظر معينة في شأن ما جرى في لبنان من أحداث قبل 15 سنة فان الكتب التي تضمنت الآراء المشار اليها دخل بعضها الى سوريا، وان الدكتور قرم عمل أخيراً على رأس فريق من الخبراء على دراسة اعادة تنظيم وزارة المال السورية وتطوير نظامها الضريبي في اطار التحضير لاتفاق الشراكة مع أوروبا، واذا كُنّا سنحاسب الدكتور قرم على ما كتب منذ 15 عاماً فمن مِنّا يحاسب أحداً عمّا فعل منذ 15 عاماً خلال الحرب اللبنانية القذرة. انّ الوزير قرم يتمتع بثقتنا وتقديرنا، وهو معروف بعلمه ووطنيته ومقدرته وهو في كل حال ملتزم برنامج الحكومة وسياستها في جميع الميادين ولا ينوي الدكتور قرم وقد أصبح وزيراً للمال، أن يردّ على أية مهاترة سياسية وذلك شعوراً منه بمسؤولية المنصب الذي أسند اليه. اختم بالقول، كما قلنا في ختام بياننا الوزاري، أن نجاحنا في المهمة التي نتولى يتوقف على تعاوننا مع مجلس النواب، لذلك نحن ندعو مجلس النواب الى التجاوب مع هذه الحكومة ونحن على أتم الاستعداد للتعاون معه فيما يصب في مصلحة الدولة والوطن. جرى التصويت على الثقة فنالت الحكومة 85 صوتاً، وامتنع 31 نائباً عن التصويت، وغاب عن الجلسة 12 منهم. في 20/11/1988 عقد الرئيس عمر كرامي مؤتمراً صحافياً في طرابلس قال فيه ان البيان الوزاري «كان أدنى بكثير من خطاب القسم»، وان ردّ رئيس مجلس الوزراء على النواب «كان أرقى من البيان وأقوى وأوضح».