أين ذهبت الحصافة اليهودية؟

TT

قيام سائق الباص الفلسطيني خليل أبو عودة باستعمال حافلته الاسرائيلية كقنبلة موقوتة في تمزيق حشد من الركاب الاسرائيليين، حادثة أثارت تعليقات شتى المراقبين لهذه الساحة، ولن يمكنني غير ان أشارك فيها مكرهاً، لا سيما بعد كتابة مقالتي السابقة في هذه الصفحة عن النزعة الانتحارية لاسرائيل.

اليهود من الطوائف التي اشتهرت تاريخيا بالصبر، والتروي، والحكمة، والحصافة، والذكاء في معالجة المشاكل والمآزق التي تواجههم. فرض ذلك عليهم الاضطهاد المعادي للسامية فمكنهم من الصمود والبقاء كل هذه الثلاثة آلاف سنة من التاريخ، بينما هلكت كل الأمم الأخرى. هناك الكثير من الحكايات والنكت والطرائف الفولكلورية والأدبية، التي تجسم مواهبهم في مجال حسن التخلص والتغلب على المشاكل. كيف ولماذا تعذر عليهم كلياً استعمال هذا التراث والمواهب في حل هذه المشكلة المهمة المتعلقة بعلاقاتهم مع الفلسطينيين والدول العربية؟ هذا سؤال طالما طرحته على نفسي.

الدول الكبرى معهم. الرأي العام العالمي وراءهم. نفوذهم في واشنطن ضارب الاطناب. معظم القيادات العربية تجنح الى الانتهازية والفساد في سائر صوره. لماذا تعذر عليهم استعمال تراثهم وقدراتهم في استغلال ضعف الرجال للحصول منهم على هذا المطلب البسيط نسبياً وهو العيش بسلام؟ استطاع الشاه ان يبتلع الاحواز الغنية بالنفط، وابتلعت تركيا لواء الاسكندرونة، ولم يعبأ أي منا، ولا من سكانها بما جرى. لماذا أخذت فلسطين هذا الحجم الكابوس المريع، الذي راح يدمر كل مستقبل المنطقة؟ عفواً! وأنا آسف. لا تقولوا لي انه الحماس الديني في قلوب أكثرنا من أجل الاماكن المقدسة.

نجد عند استعراض فصول هذه المآساة، ان سلسلة طويلة من فرص السلام والتسوية بين الصهاينة والعرب قد سنحت وضاعت. وضيعها الصهاينة عمدا مع سبق الاصرار، وبنفس الدرجة من العمد والاصرار التي حرص فيه الجانب العربي على كتم اسرارها عنا، والتبرؤ الكاذب منها. كان من آخرها مساعي النائب العمالي البريطاني اليهودي موريس أورباخ في التوصل الى تفاهم وتعايش سلمي بين عبد الناصر وشاريت (رئيس وزراء اسرائيل)، عبر سلسلة من الرحلات المكوكية بين القاهرة ومالطة وتل أبيب بين 1954 و 1955. لديّ بعض وثائق هذا الفصل بما فيها رسالة من أورباخ في صددها، حدث هذا التفاهم الذي أعرب خلاله عبد الناصر عن رغبته في التعاون مع اسرائيل والحصول على مساعدتها الفنية. بيد ان غولدا مئير سمعت بذلك فأسرعت الى بن غوريون وبقية الصقور لتحذيرهم مما يفعله شاريت، وتآمروا على اجباره على اسناد وزارة الدفاع الى بن غوريون في 20 فبراير 1955، في غضون اسبوع واحد من استلامه المنصب، بعث بفوجين مدرعين للاغارة على مواقع الجيش المصري وتدميرها وقتل 37 من الجنود والضباط.

المسكين عبد الناصر اساء فهم فحوى العملية وابعادها، بدلاً من اعتبار ضربة بن غوريون فخا لجر مصر، اعتبر مساعي أورباخ هي الفخ بتضليلها بسلام كاذب ثم ضربها على حين غفلة. قرر التوجه نحو التسلح وضاعت فرصة السلام. جاءت فرصة ذهبية أخرى بعد حرب 1967، حين أدرك العرب ان لا أمل لهم قط في ازالة اسرائيل من الخارطة. انحصرت طموحاتهم في استعادة الأراضي التي خسروها وفق شروط القرار 242 الذي خطط لمستقبل من التعايش السلمي. أشار الكثير من عقلاء اسرائيل كأبي ايبان، وأيضاً بن غوريون في ما بعد، بأن على اسرائيل ان تتلقف هذه الفرصة، وتتخلص من الأراضي المحتلة ومشاكل حكم سكانها العرب، وتمهد لسلم دائم مع جاراتها. كتبت في حينها ان أمام اسرآئيل فرصة رائعة لبداية جديدة جيدة. كل ما عليها هو ان تظهر للعرب شيئاً من نبل وفروسية المنتصر وحسن طويته. هذا ما يفعله الفرسان في أوج انتصاراتهم، فالاعطاء للعدو هو الفضيلة كما قال ابن رشد. انا واثق لو انها سلكت ذلك المسلك ومدت يد الكرم للعرب في عز تفوقها عليهم، لما نسوا كرمها هذا، ولدخلوا في انقلاب من الانقلابات النمطية التي كثيراً ما تميز النفس العربية المفطورة على التطرف من الأبيض الى الأسود، ومن الأسود الى الأبيض. بدلاً من مستعمرات مفروضة ومرفوضة، كان بامكان اليهود ان يقيموا احياءهم ومستوطناتهم في سائر العالم العربي بكل سلام وتفاهم وتعاون. كانت هناك دائماً أحياء وبلدات يهودية في البلاد العربية، ولم تكن هناك أي مشاكل معها.

لكن صقور اسرآئيل لم يختاروا هذا الطريق. آثروا مواصلة المواجهة، ضربة بضربة، وقتلة بعشر قتلات. مفاوضات عقيمة في طرق مسدودة. وفي كل يوم يزداد الكره المتبادل، والشعور بالريبة، والقلق، والترقب. من بين كل البدائل الممكنة تشبثوا بأسلوب واحد، وهو القوة والبطش، والتنكيل.

لماذا اختارت اسرائيل هذا البديل الأليم؟

الجواب الرسمي الاسرائيلي هو الحاجة الى الأمن والخوف من غدر الجار وعدوانه. ولكن بيننا من يعتقد انه تراث الطمع والاستحواذ على المزيد والكثير. لقد حصلوا على هذه الأراضي المحتلة فلماذا يعطونها لأهلها؟ يؤمن آخرون بأنه مخطط اسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات. لا شك ان هناك عوامل نفسية كثيرة تلعب في هذه الدوامة، واليهود تميزوا بالتعرض العميق للعوامل النفسية. بعد قرون من الضعف والغلبة والاستسلامية، وجد الاسرائيليون انفسهم يحملون السيف ويجيدون استعماله، ويبترون به آذان كل من يزعجهم. انه الطفل الذي تعلم ركب الدراجة. تعال وخذها منه. العامل النفسي الآخر يكمن في الكلمات الخالدة «اتق ظلم المظلوم». هؤلاء قوم عانوا ابشع الويلات لقرون، وفقد الكثير منهم اعزاءهم في المحرقة النازية. من يلوم العبد على تقليد السيد عندما يصبح سيداً؟

كيفما كان الأمر، فالاسرائيليون بقوا متشبثين بهذه الفكرة، وهي ان العرب لا يفهمون غير القوة. سلموا الحكم لشارون من منطلق هذه الفكرة. وكل ذلك رغم ان الشارونية اثبتت فشلها التام عملياً في لبنان. لا، بل وأكثر من ذلك. لقد طبقوا هذه الفكرة طوال تاريخهم في فلسطين، فأين انتهت بهم؟ هذا ما انتهت اليه. تفاصيل الخبر من غزة تقول ان خليل ابو عودة فقد اعصابه وعقله بعدما قرأ عما أصاب حفنة من الاطفال الفلسطينيين في خان يونس من نيران الجيش الاسرائيلي قبل أيام، فقام بما قام به.

فيما انهمك ضباط اسرائيل في اعطاء جنودهم اقصى القدرات القتالية، فات عليهم انهم كانوا بنفس الوقت يعطون عدوهم ما هو أقدر من كل ذلك، الا وهو الاستعداد للشهادة والفداء، واسترخاص الموت والتضحية. أقصى ما يمكن للبندقية ان تفعله هو ان تقتل، ولكن ما قيمة ذلك اذا كان القتيل قد استعد للموت؟ يربي الاسرائيليون الآن في عماهم وتجاهلهم لتراث الحكمة اليهودية القديمة جيلا من الفلسطينيين لا يرون أمامهم حياة أو أملا أو خيارا بغير اعطاء دمهم لغرض سفك دم عدوهم. وما من معلم يربي الفلسطينيين على ذلك أكثر من شارون. انها حكاية ذلك الصبي الأحمق الذي يحاصر قطة، ويظل يعذبها ويغيظها حتى «تقفز قفزة وتفقأ له عينه اليسرى» لا أدري ان كانوا يعلمون هذه الغنية في رياض الاطفال الاسرائيلية. ان لم يفعلوا فعليهم ان يفعلوا. هذا شيء مهم. فالصهيونية التي وعدت اليهود بأنها ستعطيهم ملجأ آمناً يستطيع اليهودي ان يطمئن فيه على حياته وحياة اسرته نجحت في اعطائهم بلدا، هو البلد الوحيد في العالم الآن، الذي لا يستطيع اليهودي فيه ان يأمن على حياته وحياة اسرته. هل بعد ذلك من مهزلة؟