محترميات الأكاديميين وحصاناتهم

TT

في كتاب الدكتور محمد مبور «الاكاديميون العرب والسلطة» فصل ممتع بعنوان «المحترمية والسلطة» قرر فيه استنادا الى ما تعلمه في الغرب ان الاكاديمي لا بد ان يحصل على محترمية معينة يخولها التعليم وشكل وحجم المنصب الذي يشغله بعد التخرج.

وقسم الباحث الجاد المحترمية الى اربع مراتب تبدأ من الاندماج في سوق الدولة الوظيفي لتصل الى امتلاك بعض السلطة والنفوذ ثم تصل في مرتبتها الثالثة الى امتلاك قوة الدفاع والردع، اما المرتبة الاخيرة فهي كما يعتقد الباحث، الحصانة الكاملة، حيث يحصل الاكاديمي على استقلاليته الكاملة ويكون موضع تشريف وتكريم اينما حل ورحل.

والمحترمية وحصانتها تأتيان عن طريق الاستحقاق العلمي والجدارة الفكرية نظريا، أما عمليا، فلو نظر الباحث الكريم الى وضع الاكاديميين في العالم العربي لوجد ان الجدارة الفكرية والتفوق في التخصص لا يؤهلان صاحبهما لغير المشاكل ولا يرشحانه لغير الجنون، فالوظائف العليا محجوزة للحزبيين واعوان الاجهزة، وهؤلاء تفوقهم الاكاديمي موضع شك دائم، فنصفهم يحصل على الدكتوراه بالواسطة، وربعهم لا يكتب منها حرفا واحدا، والربع النزيه الذي يتعب على نفسه، ويحب العمل الاكاديمي لا ينافس عادة على المناصب.

وليس لاحد في العالم العربي حصانة لا في المجال الاكاديمي ولا في مجالات الفكر والابداع الادبي، فأكبر رأس في هذا المجال معرض على الدوام للشطب والحذف والعقوبة بل والتجويع والقمع، فالتفوق الفكري يصل ببعض اصحابه الى السجون والمعتقلات بدلا من الوصول بهم الى المحترمية التي يقترحها الدكتور الباحث.

وفي كتاب المستشرقة السويدية مارينا ستاغ «حدود حرية التعبير» المخصص لدراسة علاقة الكتاب والادباء والاكاديميين بالرقابة، شهادات تشيب لها الرؤوس، فمن كان يتصور مثلا ان رجلا كتوفيق الحكيم يشكو من اهمال مقالاته وحذف الكثير منها من دون الرجوع إليه.

ان حصانة الاكاديمي والمبدع كحصانة القاضي، ضرورية للمجتمع، لكننا نادرا ما نفكر فيها لأننا درجنا على عادة انه مجرد موظف عند الدولة، وتربينا على عقلية النظر الى الجامعة كمدرسة ثانوية اكبر تخرج الموظفين ولم نعاملها بما تستحقه من احترام. فهل هي صدفة ـ مثلا ـ ان يكون الحرم الجامعي مقدسا لا يجوز المس به ولا انتهاكه في معظم بلاد العالم باستثناء بعض البلاد العربية التي تنتهكه قياما وقعودا، وتغرسه بالمخابرات بدلا من الاشجار؟

أما عن الحرية الاكاديمية فحدث ولا حرج عن فقدانها الاكيد، ففي معظم البلدان هناك قوائم بالموضوعات الممنوعة على طلبة الدراسات العليا، وبقوائم القضايا التي لا يجوز المساس بها، او الاقتراب منها وبلوائح المسائل الحساسة والخطرة على أمن الدولة، وكل هذا يجعل من الحريات الاكاديمية العربية مجرد مزحة ثقيلة لا يصدقها مطلقوها، ولا تقنع الضاحك ولا المضحوك عليه. وفي اجواء من هذا النوع يصبح الحديث عن محترمية الاكاديميين، وحصانة الجامعات، نوعا من سمر المجالس الليلية الذي لا يلزم احدا لكنه يظل ضروريا، فما نفقده حاليا لا يعني ان نضحي به الى الابد انما يجب ان نطرحه للحوار والنقاش الموسع، وان نطالب به في كل المناسبات، فالحرية داخل الحرم الجامعي كحرية الاوطان تؤخذ ولا تعطى، وحين يسكت الاكاديميون عن حقوقهم خوفا من اضطهاد او طمعا بمنصب او مال، تبتعد عنهم المحترمية والحصانة ويظلون في نظر الدولة والناس موظفين مجردين من الهالة الفكرية والعلمية، ويمكن العبث بهم وبأوضاعهم تحت أي ظرف وفي مختلف الكليات والاوقات.