جس العراق نبض بوش.. فجاءت الضربة

TT

قبل مغادرة بيل كلينتون، الرئيس الاميركي السابق، البيت الابيض مع فريقه، قال ساندي بيرغر مسؤول الامن القومي في لقاء وداعي: لقد ورثنا المشكلة العراقية من ادارة بوش الاب وسنسلمها الى بوش الابن. وجاءت الضربة الاميركية ـ البريطانية يوم الجمعة الماضي على جنوب بغداد، لتظهر ان ادارة جورج دبليو بوش تسلمت من ادارة كلينتون، مع التركة العراقية، الحيرة في التعامل مع النظام العراقي وعدم وجود سياسة مركزة ومحددة لايجاد حل عسكري او سياسي لتلك التركة العراقية. والذي يشير الى البلبلة الاميركية بالنسبة الى موضوع العراق تناقض واختلاف البيانات التي صدرت عن الحكومة الاميركية وكذلك عن الحكومة البريطانية. لكن، يجب ان لا ننسى، ان الرئيس جورج دبليو بوش ركز خلال حملته الانتخابية على ان اي استفزاز من العراق سيقابل برد حاسم من ادارته. وقبل انتقاله من تكساس الى واشنطن قال في تصريحات صحفية ان الحصار على العراق شبيه بجبنة الغرويير اي مليء بالثقوب.

والمعروف تعلق بوش الابن بوالده، فعندما فاز بيل كلينتون وحرم بوش الاب من فترة ثانية، كان بوش الابن في الاربعين من عمره رئيسا لفريق البايزبول في تكساس، وبسبب هزيمة والده باع حصته في الفريق وقرر خوض المعترك السياسي، فصار حاكما لولاية تكساس، ولفت الانظار بتصريحاته خلال معركة بوب دول وبيل كلينتون على الرئاسة الاميركية. واذا كان انتقم لوالده بوصوله الى البيت الابيض وهزيمته لفريق كلينتون ـ آل غور بعد معركة شرسة، فلن يتأخر في الانتقام لوالده مما يسميه الجميع: مهمة غير منتهية، بالنسبة الى غزو العراق للكويت. التبريرات للضربة على جنوب بغداد تفاوتت بين تلقي النظام اسلحة مضادة للطائرات من بلغراد (زمن سلوبودان ميلوسيفيتش) او اسلحة من الهند، ووجود مهندسين صينيين يقومون بربط اجزاء من نظام الدفاع الجوي العراقي، بعد وصول ادوات حديثة لاجهزة الرادار.

مصدر في لندن قال لـ«الشرق الأوسط» متسائلا: كلنا نعرف ان اجهزة الرادار لا تخبأ في الجيوب، فمن مصلحة اي دولة تحيط بالعراق ادخال قطع الرادار الى العراق؟ تركيا: كلا، ايران: كلا، الكويت: مستحيل، السعودية: من سابع المستحيلات، الاردن؟ وهل يمكن ان يورط نفسه بمثل هذا الامر؟ سوريا: لا يمكن. ثم لا وجود لجسر جوي لنقل هذه القطع، من هنا لا يمكن ان نصدق التبريرات، خصوصا بعد مرور اربعة ايام كاملة اتاحت للاميركيين ابراز سبب مقنع باعتقادهم، ولكننا لم نسمع عن انواع هذه الرادارات الجديدة.

ويلاحظ محدثي وجود حيرة وستستمر.. ويرى ان هناك اسبابا كثيرة وراء الضربة منها، ان كولن باول وزير الخارجية الاميركي وديك تشيني نائب الرئيس غير مستعدين لتحمل لوم اضافي، اذ ان رجل الشارع في اميركا يعتقد انهما وآخرين لم يتخلصوا من الرئيس العراقي صدام حسين في المرة الاولى، لا بل ابقوه مكانه. ثم ان جماعة كلينتون كانوا يقولون لمجموعة بوش الاب، انهم سبب الورطة لانهم لم يتخلصوا من صدام حسين عام 1991، لذلك لا يتحمل باول وتشيني اي انتقاد جديد يأتيهم من الشارع الاميركي، ويضيف محدثي: النقطة الثانية، هي ان ادارة بوش الابن متهمة بأنها لا تعرف شيئا عن العلاقات الدولية، وخصوصا الرئيس نفسه، لذلك اختاروا القيام بضربة على جنوب بغداد لاعتقادهم ان الامور ستسير حسب مخططهم ولن يأتي اي انتقاد بل ستزيد شعبيتهم، كل ذلك ليثبتوا انهم يعرفون جيدا تفاصيل العلاقات الدولية، لكن فوجئوا بالمجموعة الدولية تنتقدهم بشدة، ولا يوجد بارومتر لقياس ردود فعل المجموعة الدولية، فهل كان يتصور احد اثناء حرب السويس ما برز من مواقف مفاجئة للدول؟ ابدا. وهذه المرة، لم يتصور كثيرون، حتى خارج دائرة المسؤولين في الولايات المتحدة وبريطانيا ان تكون ردود الفعل الرافضة بهذه الكثافة: فرنسا، الصين، روسيا، اضافة، وهذا لافت، تركيا والمانيا، كما ان الصحف البريطانية انتقدت، وكذلك اعضاء بارزين في حزب العمال البريطاني الحاكم من غير المحسوبين دائما على يسار الحزب.

من ناحية اخرى، قبل الضربة كان كولن باول قد زار الامم المتحدة يوم الاربعاء الماضي وركز في حديثه عن العراق على تشديد العقوبات، فبدا بعد الضربة وكأنه خارج الادارة او وكأن ادارة جورج دبليو بوش منقسمة على نفسها ما بين الصقور (دونالد رامسفيلد وزير الدفاع وديك تشيني) والحمائم (باول وكوندوليزا رايس مسؤولية الامن القومي). خصوصا ان باول خلال لقائه مع الامين العام للامم المتحدة كوفي انان، كان من المفروض ان يبلغه المطلوب اميركيا من العراق، قبل وصول الوفد العراقي في 26 من الشهر الجاري، ولهذا اعلن انان يوم الثلاثاء وكأنه يريد ان يقنع العراقيين بالمجيء، انه لم يكن على علم بالضربة.

مصدر اميركي قال لـ«الشرق الأوسط» ان الضربة الاخيرة جاءت بعد تزايد نشاطات الدفاعات الجوية العراقية كمحاولة لجس نبض ارادة جورج دبليو بوش.

وقد تتعرض المصالح الاميركية للضرر، على المدى القريب، خصوصا ان كولن باول متجه الى دول الخليج والشرق الاوسط الاسبوع المقبل، لكن على المدى البعيد تأتي الضربة كجزء من الاستراتيجية لاعادة النفوذ الاميركي في المنطقة بعدما نجح العراق في تحويل الاعداء الى اصدقاء.

ويضيف المصدر: في الاسابيع الاخيرة، لوحظ زيادة قوة الدفاعات الجوية العراقية في الجنوب، وظهر اصرار الجيش العراقي على تحدي ارادة الرئيس الاميركي الجديد، وقبل تسلم بوش بأيام قليلة، وصف عدي صدام حسين الكوبت كجزء من العراق الكبير، العبارة نفسها التي اطلقت قبل الغزو. والشهر الماضي، وحسب التقارير صار العراق يحرك صواريخ ارض جو الى مواقع جديدة، جاء بقسم منها من الشمال منطقة الحظر الجوي، وقسم من حوالي بغداد، وبدا انه زاد في استعماله لرادارات جديدة رُبطت بتسهيلات مقرات القيادة، ثم ان «هجمة» الطائرات مؤخرا، التي وصلت بغداد على اساس انها تنقل مساعدات انسانية ووفودا سمحت بتهريب قطع الرادارات الى العراق، وقد تكون كلها روسية الصنع.

وقول المصدر الاميركي، هذه التحضيرات ادت الى زيادة المحاولات العراقية بالتصدي بطريقة معينة، اذ ان البطاريات كانت تطلق الصواريخ ثم تنتقل من مكانها لتجنب الرد، والنجاح في هذا التكتيك يصبح سهلا اذا تم الحصول على رادارات افضل وربطها بمواقع القيادة كتلك التي وُصفت يوم الجمعة.

ايضا، منذ تسلم الرئيس بوش زاد الجيش العراقي من حجم مواجهاته. فحتى العشرين من الشهر الماضي، اليوم الذي ادى فيه بوش القسم، وحسب تقارير القيادة العسكرية الاميركية كانت القوات العراقية تطلق المضادات عشر مرات في الشهر، لكن خلال الاسبوع الاول من ولاية بوش تضاعفت نيران القوات البرية العراقية ثلاثين مرة. وخلال اول اسبوعين من هذا الشهر، شاغلت القوات العراقية الطائرات الاميركية البريطانية اما بمضادات جوية او صواريخ ارض ـ جو عشرين مرة، ويشير المصدر انه بشكل اجمالي زادت النيران العراقية بنسبة عشرة بالمائة، منذ بدأت القيادة العسكرية الاميركية تسجل يوميا تفاصيل عن المواجهات منذ شهر كانون الاول (ديسمبر) عام 1998.

وكرد على هذه التطورات، زادت طلعات الطائرات الاميركية والبريطانية، كذلك لجس ردود الفعل العراقية، وحسب ما اوردته وكالة الانباء العراقية، تميز الحادي عشر من هذا الشهر بطلعات مكثفة فوق الشمال والجنوب. وقال العراق، ان 17 طلعة قامت بها الطائرات فوق الجنوب في ذلك اليوم، كانت محمية بطائرات الرادار الاواكس والهوك اي، وقصفت اهدافا هناك وفي اليوم نفسه، قامت الطائرات بـ16 طلعة فوق الشمال منطلقة من تركيا.

محلل عسكري بريطاني قال ان حرب تحرير الكويت جعلت الجيوش الغربية تركز كثيرا على القوة الجوية، ولاحظنا ذلك في الحملات العسكرية الغربية على البلقان، صحيح ان القوة الجوية ساعدت على طرد القوات الصربية من كوسوفو، لكنها تبقى محددة، فصدام حسين ما زال على رأس السلطة في العراق والنظام السابق في بلغراد لم يستطع الغرب الاطاحة به، بل اطاحته مظاهرات شعبية وليس القنابل.

وقد تكون الاستراتيجية الاميركية عبر هذه الضربة التي اكدت من يملك زمام القوة، هي وسيلة لتوفير الغطاء العسكري للتخلي عن الحصار الاقتصادي الذي ادى الى ثمار عكسية، ومقابل رفع الحصار سيُفرض على العراق استقبال مفتشي الاسلحة الدوليين، ثم ان سقوط سلوبودان ميلوسيفيتش العام الماضي نتيجة اساءته للحسابات الداخلية سيوفر لبوش وبلير الدليل على ان الطغاة لا يزيلهم الا شعوبهم.

لا شك ان الحصار بدأ يتآكل، وقد يدعّي صدام حسين بأن محاولاته ونجاحاته هي التي فرضت على اميركا بالذات الرضوخ للموافقة على ازالة الحصار، وقد تزداد شعبيته داخل العراق على المدى القصير، على اساس انه ظل لاكثر من عشر سنوات يتحدى الغرب الذي رضخ في النهاية ومشى مع رفع الحصار، لكن هذا الانتصار الداخلي لن يدوم، لان مقابله سيفقد صدام حسين آخر سلاح في يده لقمع شعبه، ولا بد، بعد رفع الحصار الاقتصادي ان يبرز كوستانيتشا عراقي يلتف حوله العراقيون، ويفتحون اعينهم ليواجهوا عمق المأساة التي دُفعت اليها بلادهم وُدفعوا هم معها، وسيطالبون بالعدالة للستمائة الف طفل ماتوا بسبب رفض النظام الالتزام بقرارات الامم المتحدة.

وعودة الى المصدر في بريطانيا الذي يقول: «ان اكبر خطأ ارتكبه الاميركيون اخيرا كان المناورات مع اسرائيل. فصدام حسين مستميت لايجاد ربط بين قضيته والقضية الفلسطينية، فاذا بالاميركيين يوفرونها له، وصار الكل في الشارع العربي يصدق ما يقوله صدام».

هذا الامر يؤكد مرة اخرى ان ادارة بوش لا تعرف ما عليها ان تعمل مع صدام حسين، تماما كالدوامة التي كانت تتخبط بها ادارة كلينتون، والادارة الجديدة كالادارة السابقة، ضجرة من المعارضة العراقية المفككة، ويقول المصدر في بريطانيا انه عندما قال لمسؤول في ادارة كلينتون: انكم تحتاجون الى شخصيات وليس الى برامج في المسألة العراقية، جاءه الجواب: آتني بشخصية واحدة، انا اتفق معك. نعرف ان هذه المعارضة لن تصل الى شيء، انما اين هي الشخصية العراقية؟ ويضيف: ان الدول العربية التي حاربت الى جانب الحلفاء ضد العراق، تريد ان تتخلص من هذه المسألة ومن المظاهرات التي تخرج في شوارعها تأييدا لصدام حسين. المصدر الاميركي يؤيد هذا الامر ويقول ان صدام حسين نجح في اعادة علاقات بلاده مع العالم الخارجي، لكن مخططه ابعد من ذلك، فهو يعرف ان هذه الدول ستطالب برفع الحصار الاقتصادي، لمصالحها، فيتخلص بذلك من مناطق الحظر الجوي، الامر الذي سيتيح له اعادة بناء ترسانته العسكرية واسلحة الدمار الشامل، من هنا، سيشدد الغرب على عودة المفتشين الدوليين والابقاء على برنامج المراقبة العسكرية.

وكان النظام العراقي حقق انتصارا ملحوظا في الشهر الماضي، عندما اوفد مسؤولين الى الاردن وسورية ومصر وقعوا اتفاقات للتجارة الحرة مع العراق، وقد قدمت الاتفاقات الى الشعوب العربية، على انها انتصار للتضامن العربي ولتقوية العلاقات الاقتصادية، لكن هناك اسبابا مختلفة جمعت هذه الدول. فمصر وافقت لاسباب اقتصادية وامنية داخلية، وسوريا وقعت لحاجتها الى استقرار اقتصادي مستقبلي وخوفا من التهديدات الخارجية، والاردن لوضعه الاقتصادي المنهار. كما نجح العراق في اقامة علاقات تجارية مع ايران، اذ سمح الحرس الثوري الايراني بتهريب النفط العراقي مقابل مبالغ من الاموال لقادته ورسوم لطهران، ثم ان اعادة العلاقات الديبلوماسية كاملة مع مصر دفعت ببغداد الى الطلب من الرئيس المصري حسني مبارك القيام بوساطة بينها وبين المملكة العربية السعودية، لكن مبارك الذي زار فعلا الرياض لم يتبن الفكرة.

على كل، قد يفيد رفع الحظر الاقتصادي الشعب العراقي بكل تأكيد، وقد تمتد افادته لتصل الى بعض الشعوب العربية التي انستها مظاهرات التأييد واقعها الاليم.

السبت الماضي، بعد الضربة، نشرت احدى المجلات البريطانية تحقيقا عن افغانستان وبالذات عن احد القادة الشماليين، «عمر» الذي قاد هجوما ليليا ضد قوات طالبان في منطقته، فخسر بسببه 13 مقاتلا واضطر الى الانسحاب مع بقية رجاله. قرأت عن اليأس الذي اصيب به بعد خسارته لهؤلاء الرجال واعتبر انه هو السبب لوضعه خطة عسكرية فاشلة وتجاهل الفرق في العدد وفي السلاح الذي كان لمصلحة الطالبان. ومساء الاحد بثت احدى المحطات التلفزيونية الاميركية برنامجا عن تحرير الكويت وعرضت المناظر المؤلمة لآلاف من الجيش العراقي المستسلم (...) وتذكرت حديثا للجنرال نورمان شوارتزكوف قبل فترة قال فيه، انه في احد الايام كان الجيش العراقي كله مكشوفا في الصحراء الكويتية، وكان يمكن لطائرات الحلفاء ان تبيده.

قد لا تجوز المقارنة بين عمر الافغاني وصدام حسين الرئيس العراقي، لكن الاثنين يعتبران انهما قائدان عسكريان! ثم وقعت الضربة على جنوب بغداد، وتلتها المظاهرات، نساء، رجال، اطفال، الكل يهتف: بالروح بالدم نفديك يا صدام.

هل نبكي عليهم ام نبكي معهم... وهل هتافهم للزعيم هو بكاء؟ لكنهم يخرجون بالآلاف، ألا يحق لنا ان نتساءل: أليس من واحد مريض غير قادر على الخروج للهتاف؟