الصحافي والشوفير

TT

لا يرتبط الصحافيون بأحد كما يرتبطون بسواق التكسي حتى ليمكن القول انه لولا الصحافة لما وجدت التكسيات ولولا التكسيات لما عرف الصحافيون ما الذي يمكن لهم ان يقولوه. ففي معظم التقارير التي تقرأونها عن البلدان الأجنبية حيث يشير المراسل الى ما سمعه من مصادر دبلوماسية او مصادر مطلعة او ما سمعه من شخصية مسؤولة تجدون ان ذلك في الواقع لا يزيد على ما سمعه من سائق التكسي الذي نقله من المطار الى الفندق او بالعكس. الحقيقة ان المتواضعين والصادقين منا كثيراً ما يعترفون فيقولون: «... وكما قال لي أحد سواق التكسي...»، ثم يمضي ليروي لنا ما قاله السائق وكأنه الخبير الوحيد في البلاد عن أوضاعها الاقتصادية والعسكرية والثقافية.. الخ.

وفي زيارتي الأخيرة لحبيبتي القاهرة، وكما قال لي أحد سواق التكسي فيها، لم اجد ما يؤنسني فيها كالذي اسمعه من سواقها. انهم يمثلون سماحة الشخصية المصرية وظرفها وطيبتها. وسواق التكسي يحملون راية العولمة قبل ان نسمع بها. ففي كل مكان تراهم يشكلون دائماً الشريحة الحقيقية للمعارضة الراديكالية ضد أي شيء وكل شيء. انطلق سائق التكسي يسب ويشتم ويندد: «خلي بالك يا أستاذ، ده كلهم حمير وأولاد كلب وما ينفعشي الكلام معهم. نحن ناس أغبية وحمير، خلي بالك...» ومضى يهدر في النقد والتذمر متجاوزاً اثناء ذلك اشارة المرور الحمراء.

«خلي بالك يا واد! ده انت عبرت على الضو الأحمر!».

قلت له فأجابني فوراً: «ما انا كنت أقول لك ايه يا أستاذ؟ ده اللي بأقوله، نحن ناس حمير. انا حمار».

تدفع كم لمثل هذا السائق الظريف؟ دفعت له كل ما تيسر، اقصد ما تيسر من ميزانيتي. فأنا ايضاً حمار! والفنان الفرنسي جون كوكتو ايضاً حمار. لاحظ ان سائق التكسي كان يزمر بشكل هستيري على الضوء الأحمر، فقال له ما الفائدة من التزمير للضوء الأحمر؟ انه لن يستجيب لزمارتك! لم يقل ذلك إلا وتغير الضوء الى الأخضر، فقال له السائق «شفت يا خواجه! تغير. زمرت له وتغير».

النتيجة طبعاً الضوضاء المستمرة في شوارع القاهرة. عاد جون كوكتو ليكتب ويقول انه وجدها تضج خلال النهار وتشخر خلال الليل.

من لا يسمع سواق تكسيات القاهرة يضجون ويشخرون يفوته شيء من متع الحياة الشرقية. ولكنهم الآن مشغولون بنظام حزام السلامة الذي ينبغي ربط انفسهم به قبل تحركهم. قال احد بلغائهم: «سلامة ايه، وحزام سلامة ايه؟ هو نحن يا دوبك نقدر نتحرك في هالزحمة!». يظهر ان زميلاً له احتاط على الأمر فأخذ يجر الحزام ويجلس عليه بما يوحي لشرطي المرور انه يستعمله. اي شيء من اجل تجاوز الأوامر. ولكن سائقاً آخر نظم نفسه بشكل اكثر دقة. صنعت زوجته له حزاماً مشابهاً لحزام السلامة يشده حول بطنه ويتظاهر بأنه يستعمل حزام السيارة. ولن استغرب قط ان يظهر واحد حذق يؤسس مشغلاً صغيراً لصنع احزمة وهمية رخيصة من الورق المقوى تشتريه بجنيه او اقل، تدبسه على سترتك وتوهم الشرطي بأنك تطبق الأوامر وتلتزم باستعمال الحزام المطلوب الذي تبيعه للأفندية اثناء ذلك وتكسب الفرق.