المرشد الأمين في الانكشاف على التنوير!

TT

فى «المرشد الامين للبنات والبنين» يضطلع الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي بمهمة المعلم ـ الدليل، مرشد المرأة القابعة في قعر ظلمات الجهالة والاكراهات، للخروج الى نور العلم، وطلبه ولو بالاختلاط مع الرجل، ومداخلته في عالمه المحتكر.

لقد نظر الطهطاوي الى «التعليم المختلط» كضرورة اجتماعية لـ «تسهيل وتحسين عملية عقد القران للفتيان والفتيات، تعليم الفتاة القراءة والكتابة والحساب والقواعد يساعد على رفع مستوى ثقافتها ووعيها، يجعلها قادرة على مشاركة الرجل في الاحاديث وتبادل الآراء، ويعزز مكانتها في قلوب الرجال، يحميها من الهلاك في وهدة الاوهام والطيش وتتحول من امرأة جاهلة الى امرأة متعلمة» وبالتالي يصبح التعليم طريقها السالك والشرط الشارط لانخراطها في العمل الذي ـ حسب شيخ التنوير ـ «يصون المرأة ويدنيها من الفضيلة، فاذا كانت بطالة الرجل مدانة، فإنها عار كبير بالنسبة للمرأة» وذلك بالطبع لما ترفع الحواجز وحالة منع الاختلاط التي يفرضها ذكور العائلة والمجتمع والدولة، منذ قرون دامسة، على المرأة التي عندهم «الولية» و«الحرمة» و.. و..

كان الطهطاوي شيخا تنويريا، وصاحب مبدأ براغماتي عملي، ينهج منطق التحليل الملموس للواقع الملموس، فهو دعا الى ثورة اجتماعية بنيوية ونشط بقوة في الدفع بحراكها، لكن على سنة الله ورسوله.

من التراكمية إلى النوعية كان يعرف معرفة العالم في الجهل! من اين تنفذ الافكار العملية وتتجذر لتفعل فعلها التراكمي في بنية اجتماع قدامة منحطة! ثم يتحول الفعل التراكمي الى تغيير نوعي، وان لزم تبلوره عقودا هي بالضرورة لازب.

التفكير العملي، او التحليل الملموس للواقع الملموس، مكن الطهطاوي من التأثير على الخديوي اسماعيل الراغب اصلا في التحديث فقام بافتتاح اول مدرسة للاناث في القاهرة عام 1871، وطلب من الطهطاوي، بعدها بعام، تأليف كتاب مدرسي يكون بمثابة مرشد لتوعية البنين والبنات بقيمة التعلم. فكان كتابه الشهير: «المرشد الامين للبنات والبنين». مضمون الكتاب من حيث هدفه المباشر هو الارشاد التربوي التثقيفي وحث البنات والبنين، البنات على وجه التخصيص، على التشبث بالتعليم ومتابعة مراحله، اما هدفه في المدى البعيد، فهو دفع المجتمع ذكورا واناثا الى الاختلاط بالانخراط في العملية التعلمية والعمل، نحو مساواة اجتماعية حقيقية. ومنعا للالتباس او التلبيس من جهة العقلية الذكورية الظلامية المتسترة بفهمها الخرافي للدين، اكد ان الدين الاسلامي هو اول الرابحين من اباحة التعليم الحديث للجنسين، وان مادة التربية الدينية ستكون على رأس مواد المنهج المقترح، وان تعليم البنات فيه منفعة للعائلة، فالأم المتعلمة قادرة على تنشئة بنين وبنات متنورين متفتحين على العلم والعمل، وبالتالي مواطنين جديرين بوجودهم في العصر، مستشهدا بنماذج نسائية من التاريخ الاسلامي والتاريخ الاغريقي شاركن «في المعارك وكن شاعرات مجيدات وحتى عالمات».

لقد شكل رؤيته التنويرية من حاصل صدام ثقافتين، ثقافته العربية الاسلامية التقليدية وثقافة الآخر الغربية (الفرنسية) العصرية، واستطاع ان يخرج من الصدام الحضاري هذا بسوية ذاتية متخلصة من عقدتي النكوص الاصولي والاستلحاق الاغترابي على السواء.

لم يصدمه او يهينه في ذكوريته مشهد سفور النساء الفرنسيات ومخالطتهن للرجال كما حدث الجبرتي الذي حكم على ما شاهد حكم قيمة اخلاقيا يدينه بالفساد والانحطاط بالمطلق! الطهطاوي عكس الجبرتي عاش في باريس وراقب المجتمع الفرنسي وكان لديه استعداد ذاتي لفهم ثقافة الآخر واستيعابها، فانكب على القراءة بنهم، قرأ في الفلسفة والتاريخ والآداب، قرأ لفولتير ورسين وروسو «وبالجملة فقد اطلعت في آداب الفرنساوية على كثير من مؤلفاتها الشهيرة.. وقرأت في الحقوق الطبيعية مع معلمها كتاب برلماكي وترجمته وفهمته فهما جيدا، وهذا الفن عن التحسين والتقبيح العقليين (يعني المذهب العقلاني) يجعله الافرنج اساسا لأحكامهم السياسية المسماة عنهم شرعية... وقرأت ايضا مع المسيو شواليه جزءين من كتاب يسمى روح الشرائع، ومؤلفه شهير بين الفرنساوية يقال له منتسكيو، وهو اشبه بميزان بين المذاهب الشرعية والسياسية (أي ميزان العلمانية) ومبني على التحسين والتقبيح العقليين، ويلقب عندهم بابن خلدون الافرنجي، كما ان ابن خلدون يقال له عندهم منتسكيو الشرق، اي منتسكيو الاسلام..».

الطهطاوي وميزان العقل لذلك عندما عاد رفاعة الطهطاوي الى مصر، بعد خمس سنوات من الاقامة والدراسة في باريس، لم يعد هو نفسه ذاك الشيخ الازهري الموفد إماما لبعثة محمد علي الى الحداثة. بالطبع لم يفقد شيئا من اسلامه، بل خلصه من الخرافات واستخلص منه الاستنارة. عاد مثقفا حضاريا عضويا، مشحونا بروح الثورة الفرنسية الملخصة في مبادئها الانسانية الشهيرة الداعية الى: الحرية والمساواة والاخاء بين البشر.

عاد بميزان عقلاني يوازن بين علمانية الغرب في الفصل بين الدين والسياسة والمنهج الرشدي (من ابن رشد) في فصل المقال ما بين الشريعة والحكمة من اتصال.

عاد بفهم اجتماعي عميق لمسألة تحرر المرأة وقضية الحجاب والسفور، تلك القضية التي كانت ولا تزال عنوانا سطحيا للتعمية على جوهر سؤال التحرر الاجتماعي. فالسفور في لب تفكير الطهطاوي لا يعني مجرد رفع الحجاب عن وجه المرأة وانما عن عقلها «وحيث ان كثيرا ما يقع السؤال عن النساء عند الافرنج كشفنا عن حالهن الغطاء. وملخص ذلك ايضا ان وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن او سترهن، بل منشأ ذلك التربية الجيدة او الخسيسة». ان انكشاف الوجه تعبير عن اشراق الروح واشاعة الجمال، بالانفكاك من العيب المبدوع الذي هو خرقة اخلاقوية لستر عقد النقص توسلا بالمقدس. وانكشاف الوجه هو ايضا حضور للذات الواثقة من نفسها كفاعل في الحياة وليس مجرد مفعول به! انكشاف على التعلم والعمل وبالتالي، بالضرورة، انخراط في حراك المجتمع وصنع التاريخ بالرجال والنساء معا، فلا ضرر ولا ضرار من الاختلاط في شؤون الحياة التي تمنح فرصها للجميع بلا تمييز، فعفة النساء «لا تأتي من كشفهن او سترهن» كما قال الطهطاوي الذي راقب مشهد الحداثة الاجتماعية في باريس، حيث نساء تلك البلاد كاشفات «الوجه والرأس والنحر وما تحته والقفا وما تحته واليدين الى قرب المنكبين» دون ان يخدش المشهد عفته الشرقية او يهين ذكوريته المبجلة او يجعله يشهر خنجر التكفير، وانما وقف على الوضع بلا عقد شخصية مستقرئا الدلالات الاجتماعية لسفور النساء ومخالطتهن للرجال فتبدو النساء الفرنسيات عند نفسه المتفتحة، المحبة للجمال «بارعات الجمال واللطافة، حسان المسايرة والملاطفة، يتبرجن دائما بالزينة ويختلطن مع الرجال».

بل انه لا يجد عيبا او حراما في رقص النساء مع الرجال، فالرقص «عندهم فن من الفنون.. ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس، وكأنه نوع من اللياقة والشلبنة، لا من الفسق، فلذلك كان دائما خارجا عن قوانين الحياء بخلاف الرقص في ارض مصر، فإنه من خصوصيات النساء لأنه لتهييج الشهوات. وأما في باريس فإنه نط مخصوص لا يشم منه العهر ابدا».

هامش: الولية: من اولاني ملكني، اصبح وليا علي، من قولك هو ولي المرأة أي صاحب امرها والحاكم عليها.

الحرمة: ما يدافع عنه ويحميه ومنه سميت نساء الرجل بالحريم.

[email protected]