فرنسا ومآسي القارة الأفريقية

TT

في مقال له حمل عنوان «الديبلوماسية في خدمة الديمقراطية» ـ «لوموند» 23 فبراير (شباط) 2001 ـ دافع هوبير فيدرين وزير الخارجية الفرنسي عن السياسة الخارجية لبلاده، معتبراً اياها سياسة «لا تقتصر فقط على اتخاذ مواقف ايجابية ازاء الديمقراطية، بل هي تتحرك دائماً لانعاش وتنشيط الديمقراطية في العالم». ومتطرقا إلى الصعوبات التي تواجهها الديمقراطية في مناطق كثيرة من العالم، مثل روسيا، وبلدان اوروبا الشرقية، واميركا الجنوبية، يشير فيدرين إلى ان هذه الصعوبات تبدو اشد تعقيداً في القارة الافريقية ذلك ان شعوبها لم تعرف الديمقراطية خلال تاريخها، ولا تمتلك راهنا لا الوسائل السياسية ولا الاقتصادية التي تمكنها من بناء نظام ديمقراطي حقيقي، لذا فانه من الضروري اعتماد سياسة المراحل، والتركيز اساساً على توفير الأمن والسلام وانهاء الحروب والنزاعات وتحقيق التنمية الاقتصادية حتى تتمكن الشعوب الافريقية من الحصول على الاطار الصحيح الذي تستوجبه الديمقراطية. ويضيف فيدرين قائلاً: «علينا بالخصوص اقتراح مساعدات مادية ملموسة على البلدان الافريقية حتى يتم بناء دولة القانون دون ان تقتصر على النقد والتوبيخ».

هذا الكلام معقول ومنطقي في ظاهره. لكنه في باطنه يتضمن مغالطات خطيرة لا يمكن السكوت عنها خصوصاً ان الامر يتعلق بالقارة الافريقية التي احتلت فرنسا جزءاً كبيراً منها على مدى فترات طويلة، مارست خلالها سياسة استعمارية غاشمة وظالمة وخالية تماماً من تلك المبادئ الانسانية التي جاءت بها ثورة 1789. وخلال هذه الفترات الطويلة من الهيمنة الاستعمارية، نهبت فرنسا خيرات وثروات البلدان التي احتلتها، وعملت قتلاً وذبحاً في شعوبها، ودمرت تقاليدها وتراثها وبناها الثقافية. وبسياستها التي اعتمدت مبدأ «فرق تسدّ»، اشاعت الفرقة والخلافات بين اهل تلك البلدان، ممهدة بذلك للعديد من النزاعات والحروب التي اشتعلت في كثير من البلدان الافريقية بعد حصولها على الاستقلال. بل ان العديد من المؤرخين والمنظرين اكتشفوا بالدليل القاطع ان المجازر الرهيبة التي ارتكبتها فرنسا في البلدان الافريقية التي كانت خاضعة لسلطتها الاستعمارية هي التي مهدت لتلك المجازر الشنيعة التي ارتكبها بعض الافارقة في حق بعضهم البعض مثلما كان الحال في رواندا. وقبل ان تنسحب من البلدان الافريقية التي كانت خاضعة لنفوذها الاستعماري، بذلت فرنسا جهوداً هائلة للحفاظ على مصالحها العسكرية والاقتصادية والثقافية في المنطقة غير مراعية في ذلك لا الجانب الاخلاقي ولا الجانب الانساني، مخلفة وراءها عملاء بلا ضمائر، وحدودا غير مرسومة، واحقاداً بين الشعوب والقبائل كامنة في القلوب، وكثيراً من القنابل الموقوتة الاخرى التي تضمن لها العودة الدائمة.

وحفاظاً على مصالحها أيضاً، حرصت فرنسا خلال الاربعين عاماً الماضية على دعم الحكام الافارقة الظالمين والمستبدين مادياً ومعنوياً، وسكتت عن الجرائم الفظيعة التي ارتكبوها في حق شعوبهم، وساعدتهم على التمادي في نهب خيرات بلدانهم، بل إن رئيسها فاليري جيسكار ديستان حمى سفاك الدماء بوكاسا، «امبراطور» افريقيا الوسطى بعد ان مده هذا الاخير بكمية هائلة من المجوهرات. وفي نهايات العام الماضي، كشفت الابحاث ان عدداً كبيراً من الشخصيات الفرنسية بينهم ابن الرئيس السابق فرنسوا ميتران، مورطون في شبكة متخصصة في بيع اسلحة الموت والدمار لبعض البلدان الافريقية لحثها على مواصلة الاقتتال في ما بينها. معنى ذلك ان فرنسا لا تريد لافريقيا لا الامن ولا الاستقرار اللذين يتحدث عنها فيدرين، ذلك انها تعرف جيداً ان تحقيق ذلك يهدد مصالحها الاقتصادية والعسكرية والثقافية بصفة مباشرة. وحتى هذه الساعة، نحن لم نلمس في سياسة فرنسا تجاه مستعمراتها الافريقية السابقة ما يدفعنا الى التفاؤل والاطمئنان بخصوص المستقبل، وما دام الامر على هذه الصورة، فان كلام فيدرين المعسول عن الديمقراطية في افريقيا يظل دونما سند، بل وليسمح لنا بان نضيف بانه... بلا مصداقية..