«المثقفون السوريون والحوار المفتوح»

TT

لم يكن الانتقال السلمي والهادئ للسلطة في سورية بعد رحيل الرئيس حافظ الأسد، ومجيء الرئيس بشار الأسد حدثا عاديا، لأن طبيعة الدور الذي لعبه الرئيس الراحل خلال العقود الثلاثة من حكمه محليا وعربيا واقليميا، وعلى صعيد تعامله الدولي، كانت تؤشر بأن ثمة فراغا كبيرا سيحدث حالما يغيب عن مسرح الحكم.

بيد أن هذا الفراغ الذي كان متوقعا من البعض، بقي أسير من توهم حدوثه، لسبب بسيط وهو أن الفراغ يحدث عادة، عندما يفقد المجتمع مكونات المنهج الذي يحدد أهدافه ويضبط ايقاع فعله، وعندما تكون البنى الحقوقية والمؤسساتية هشة وعاجزة عن التطور، على غرار ما حدث في العديد من دول العالم الثالث ودول المنظومة الاشتراكية التي انهارت بعد تصدعها من الداخل.

ومن أجل معرفة الأسباب الموضوعية لهذا الانتقال السلمي للسلطة في سورية، لا بد من الإشارة الى العوامل التي ميزت الحالة السورية، ومن أبرزها:

1 ـ إدراك الرئيس حافظ الأسد قبل قيام الحركة التصحيحية وتسلمه السلطة، لأهمية الوحدة الذاتية لحزب البعث التي لا غنى عنها في أي لقاء جدي مع الأحزاب التقدمية الأخرى لتشكيل جبهة تقود المجتمع والدولة، وهذا ما حققه الأسد لاحقا، متجاوزا حالات الصراع التي شهدها الحزب بعد ثورة اذار عام 1963 حتى قيام التصحيح وتسلمه الحكم في 16تشرين الثاني عام 1970، فلم يكن غائبا عن ذهنه «أن الحزب شأنه شأن كل حركة ثورية واجه المصاعب الكثيرة ودفع في الخطأ، وتعرض للنكسات، ولكن ذلك كله حدث في إطار التمسك بالمبادئ وصيانتها من كل تحريف».

2 ـ سعيه الدؤوب من أجل تماسك الجبهة الداخلية التي كان يعتبرها الشرط الأساسي لكل نجاح، وهذا ما عبر عنه بيان القيادة القطرية المؤقتة، بالتأكيد على ضرورة اقامة الجبهة الوطنية التقدمية، بوصفها النتاج الحقيقي للوحدة الوطنية التي تشكل الصخرة القوية التي تدفع بالعمل الوطني وفي المراحل المختلفة أشواطا بعيدة نحو التقدم، في بناء الوطن ومجابهة التحديات.

3 ـ الاعتماد على الذات في البدء بتنمية سورية في القطاعات المختلفة ووفق سياسة التعددية الاقتصادية التي كان من نتائجها الانتقال من حالة التخلف الى مرحلة بناء اقتصاد وطني يرتكز على مؤسسات تجاري العصر، وترسي أسس الاستقرار الاجتماعي الذي كان الرئيس حافظ الأسد يحرص على ترسيخه وعلى تحفيز العمل الوطني باتجاه التطوير الدائم، والحد من الهدر، وتجاوز حالات التسيب والخلل بعد تشخيص الخطأ الذي يشكل الخطوة الأولى على طريق ازالته.

4 ـ متابعة بناء وتطوير الجيش الوطني من أجل القيام بواجبه في معركة التحرير، وقد قدمت حرب تشرين عام 1973 الدرس بأنه يمكن الحاق الهزيمة بالعدو، وبإمكانية تحقيق توازن استراتيجي معه، ضمن المعطيات المحلية والعربية القائمة، اذا ما توفرت الإرادة لذلك، وشروط توفرها متاحة في تواصل الصراع واحتدامه، مع الأخذ بعين الاعتبار، التأثير السلبي في مجال التزود بالسلاح المتطور، بعد غياب الاتحاد السوفييتي.

هذه العوامل الأربعة، كانت الدعائم التي سعى الرئيس الراحل خلال العقود الثلاثة من حكمه الى تحقيقها وتطويرها، بحيث تشكل مكونات قراره، وتقارب رؤيته الاستراتيجية لدور سورية في الحاضر والمستقبل.

وقد اثبتت هذه العوامل فعاليتها في ملء الفراغ، عند غياب الرئيس حافظ الأسد، وفي حالة النهوض الوطنية التي احاطت بعملية انتقال السلطة الى الرئيس بشار الأسد الذي أعلن حفاظه على نهج والده والبناء على ما تحقق في عهده.

فقد ميز الرئيس بشار بين ما تحقق على صعيد الاستراتيجية السياسية التي اثبتت فعاليتها حتى يومنا هذا، وبين ما تحقق في المجالات الأخرى، حيث لم يكن الأداء فيها يتماشى مع الأداء السياسي، مما أدى الى وجود فجوة كبيرة بينهما.

أما ردم هذه الفجوة أو تقليصها الى أضيق الحدود، فيكون بوضع استراتيجيات اقتصادية واجتماعية وعلمية تخدم التنمية والصمود في آن واحد، ولا تنسف الواقع برمته، لأن ذلك ابعد ما يكون عن جوهر التطوير الذي يبني ويطور الايجابيات، ويقلص ويحد من السلبيات. واذا كانت مرحلة الرئيس الراحل قد غلب عليها الطابع السياسي نتيجة التطورات والتغيرات التي شهدتها المنطقة والعالم بدءاً من حرب تشرين، ومروراً بكامب ديفيد وعمليات الإرهاب الداخلي الذي سبق الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 بهدف تقويض سورية واحتوائها بعد الغاء دورها وطنياً وقومياً، بالاضافة الى حرب الخليج ومؤتمر مدريد، والمفاوضات اللاحقة حتى انهيارها في شبردزتاون، وفي قمة جنيف بين الرئيس الأسد وكلينتون العام الماضي وقبل هذه القمة نشوء الأزمة الحادة مع تركيا قبل سقوط نتنياهو آنذاك، فإن هذه الأحداث أخذت الجهد الأكبر للرئيس الأسد الذي كان يؤمن بأهمية دور المؤسسات التي بناها في تحصين الوضع الداخلي وفي حالة ترسيخ الاستقرار التي تعيشها سورية في عهده، بعد عواصف الانقلابات والصراعات الداخلية التي أعقبت الاستقلال حتى قيام حركة التصحيح عام 1970.

وهنا لا بد أن أشير الى أن مجابهة الإرهاب الداخلي والقضاء عليه، ثم الأزمة الصحية التي تعرض لها الرئيس الراحل عام 1983، وما اعقبها من تبعات داخل الحزب، وانعقاد المؤتمر القطري الثامن في مطلع عام 1985 وتفويضه باختيار اللجنة المركزية والقيادة القطرية وموافقة المؤتمر عليها بدلاً من انتخابها، منعاً لأي انحراف كان قد حذر من حدوثه في المؤتمر القطري السابع عام 1979 عندما قال:

«لا أريد لأحد ان يسكت عن الخطأ، ولا أن يتستر على العيوب والنواقص، لأن مثل هذا التستر سيحقق تنامي العيوب والأخطاء وتراكمها مما يمكن أن يؤدي مع مرور الزمن الى هدم ما بنيناه في أكثر من مجال، وبالتالي الى تعثر مرحلة هامة من مراحلنا التاريخية».

والذي أريد أن أؤكد عليه ان الرئيس الراحل كان يدرك ان الأداء الداخلي يعتريه في بعض الجوانب الضعف والهدر وعدم الاحساس بالمسؤولية، وهذا ما تحدث عنه بقسوة في خطابي ولايتيه الرابعة والخامسة عامي 1992 و1999 عندما انتقد الأداء الحكومي، وحث على تطوير آلياته والتركيز على رقابة الحزب لهذا الأداء وتطويره بما يؤدي الى تجاوز السلبيات وتعميق ما هو ايجابي في المجتمع الذي نمت فيه ظواهر لم يكن من السهل ازالتها لأنها نجمت وكما قال الرئيس بشار الأسد لاحقاً، عن التداخل في عمل الحزب والسلطة، الأمر الذي أدى الى مقاومة أي تطوير فعال باتجاه منع استشراء أي حالة من الحالات السلبية والتي تتعارض أصلاً مع الفكر المؤسساتي للرئيس الراحل والديمقراطية الشعبية التي كان يعتبرها المحرك الأساسي في عملية البناء والأداء الوطني العام وفي تحصين الوضع الداخلي من أي اختراق أو تهديد يهدف الى المساس بالوطن، وبدرجة أقل زعزعة الاستقرار الداخلي، بل ان تطوير الديمقراطية الشعبية يحقق النموذج الخاص بالوضع السوري، بعيداً عن استيراد أية مفاهيم لا تنسجم مع قيمنا، وقد تكون نتائجها أشبه بمن يستبدل الطربوش بالقبعة.

ولا يعني ذلك الانغلاق، وانما يعني ان المفهوم الديمقراطي وفي ظل هيمنة القطب الواحد، لا بد ان يحافظ على الهوية الوطنية والقومية، وأن يكون الدافع لتعميق الوعي باستمرار خلال الممارسة العملية لأوجه النشاط الاجتماعي تحقيقاً لهدف امتلاك الشعب لكل الشرعية التي اثبتت فعاليتها في حماية القرارات المصيرية، وفي استئصال الارهاب الداخلي وفي الضغوط المتواصلة عبر المؤسسات القائمة لازالة السلبيات التي ينجم عنها تآكل المنجزات وضعف الأداء الداخلي وعجزه عن مواكبة الأداء السياسي المميز للرئيس الراحل (في أحد اجتماعات اللجنة المركزية المغلقة، خاطب أحد المتحدثين الرئيس الراحل: لقد بدأنا نأكل من رصيدك يا سيادة الرئيس).

وقد أجمل الرئيس بشار نتائج تردي الأداء الداخلي بقوله «لم تكن هناك استراتيجيات واضحة والتشريعات من ضمنها أتت ضعيفة وفيها الكثير من الثغرات، وكانت مسؤولة الى حد ما، وليس بشكل كامل عن الصعوبات التي نعاني منها اليوم، لذا نحن الآن بحاجة الى استراتيجيات اقتصادية واجتماعية وعلمية وغير ذلك تخدم التنمية والصمود في آن واحد».

وذهب الرئيس بشار أبعد من ذلك عندما تحدث عن الطريق الذي نسير فيه من خلال استنهاض الحالة الوطنية ودعوة لكل مواطن لكي يشارك في مسيرة التطوير والتحديث للوصول الى النتائج المرجوة في أقرب زمن ممكن.

وسأتوقف هنا عند مسألة هامة وهي أن التدقيق بمحاور العمل ومعايير الانجاز والرؤية الاستراتيجية التي حدد الرئيس بشار معالمها في خطاب القسم تؤسس للخطوات التي سيتم البناء عليها في المراحل الراهنة، والتي بدأت تتجسد في تشريعات واجراءات متتالية، ولكن الملاحظ أيضاً ان مما دعا اليه الرئيس بشار لمشاركة كل مواطن في تطوير الجهد الوطني شكل حافزاً متزايداً أمام شرائح المجتمع للتعبير عما تعتقد أنه يمثل انخراطاً في مشروع الرئيس بشار أو امتداداً له من خلال الأفكار والاقتراحات وحتى المطالب التي أثيرت خاصة من قبل العديد من المثقفين وغيرهم من اصحاب المهن والتجار والمنادين بحقوق الأقليات ومعالجة الأوضاع الطائفية والعرقية والقومية، وقد زادهم حماساً في طروحاتهم، تشجيع جهات رسمية واشاعتها بأن هذا مطلوب، ظناً منها أو لدوافع اخرى أن الكل تحت السيطرة، فنحى البعض خارجاً عن بيت الطاعة.

ولا يعني ذلك ان كل ما عرض ايجابي، لكن لا بد من التمييز بين ما هو صحيح ويمكن الأخذ به، وبين ما يمكن ان يوصف أنه بمثابة حصان طروادة. وهذه المسألة لا يجوز خلط الأوراق فيها، لأنه في اعتقادي أن دوافع غالبية من طرحوا افكارهم تحركوا في إطار مناخ الحوار الوطني الذي بدأه الرئيس بشار الأسد، وهم على قناعة بأنهم يدلون بدلوهم في عملية اقتراح الحلول لتجاوز الأوضاع الصعبة في المجال الداخلي، وليس نسف الواقع والغاء ما تحقق في العقود الأربعة الماضية، كما ذهبت قلة تعد على أصابع اليد الى تسويق أفكار تعود الى مرحلة أصبحت من الماضي، سقطت أوراق أصحابها ونفوذهم قبل قيام وحدة عام 1958 وثورة آذار 1963 التي الغت ركائزهم وبنيتهم الأساسية.

وهناك لا بد من الاشارة الى ان حالة القصور ولا أقول العجز في الجسم الحزبي والأحزاب الحليفة في عدم تحركها على المستويين الذاتي والوطني وقيامها بعملية نقد ايجابية للواقع الراهن واقتراح الحلول الملائمة (وهذا يأتي في مقدمة مهامها) وهي لم تفعل ذلك، ونتيجة لهذا التقصير في عدم التفاعل مع برنامج ورؤية الرئيس بشار الأسد والتعبير عنها، بأن العمل من اجل ايجاد الحلول الناجعة للخروج من الحالة الراهنة التي يعيشها المجتمع هي مسؤولية وطنية بل وتشكل جوهر البرنامج الوطني الذي يؤكد أن الارتقاء بالأداء الداخلي وتلبية ما هو ضروري من حاجات المواطنين سيزيد من قوة الأداء السياسي لسورية وهو القوي اصلاً، وهذا المشروع الوطني كان يتعارض مع قلة ربما حسبت ان لا مكان لها فيه فقفزت الى الأمام باقتراحات تستهدف النظام وأخذ مكانه، مستغلة الحالة الحوارية التي اخذت تتفاعل في الساحة الوطنية، خاصة الثقافية.

وكأني في السبعينات من القرن الماضي والمناخ الديمقراطي والحوار الذي اشاعه الرئيس الراحل حافظ الأسد، واستغلاله من قبل جماعة ضالعة في نشر ثقافة العنف تحت راية ادعاءات الدين لتدخل البلاد في دوامة الإرهاب، بعد أن وجدت الدعم الخارجي لها، الأمر الذي استدعى مجابهتها بقوة واغلاق باب الحوار ليبقى الأمن الاجتماعي والاستقرار مطلباً جماهيرياً.

وبرأيي فلا يمكن لقلة من أي طرف كانت قادرة على إغلاق باب الحوار، تطويق برنامج أمين الحزب، رئيس الجمهورية ورئيس الجبهة الوطنية التقدمية، وتفريغه من مضمونه وسحبه من التداول لأنه صاحب الإرادة الحرة المستقلة في طرحه والعمل على إحداث التطوير والتحديث المطلوبين لمشاركة شعبية فاعلة يمثل المثقفون الوطنيون طليعتها، برنامجاً يوفر مناخاً عاماً لا يمكن للمثقفين إلا أن يكونوا فيه حالة وطنية مدعمة لهذا البرنامج الذي ازداد وضوحاً فازداد تقديراً واعجاباً.

وشعبنا بأحزابه وتنظيماته الشعبية والنقابية والمهنية واتحاداته التجارية والزراعية وجمعياته وفي طليعته المثقفون، مدعو لتطوير هذه التنظيمات بفكرها وقوانينها وأنظمتها وصياغة علاقات جديدة بين اعضائها أولا، وبينها وبين الغير ثانياً في ظل مناخ ديمقراطي وحوار بناء وفره أمين الحزب رئيس الجمهورية الرئيس بشار ليكون باتجاه التلاقي والتوحد وترسيخ الثقة من دون أن يلغي احد الآخر وذلك وصولاً الى هدف بناء الوطن والارتقاء بمجتمعنا موحداً وقوياً.

* وزير الإعلام السوري السابق