سبعون غورباتشوف

TT

احتفل ميخائيل غورباتشوف وحيدا ببلوغه السبعين. وهذه عادة قديمة في روسيا. فقد تحول القيصر الى اشلاء لفت بورق سميك من النسيان والاصحاء. ومن بعده تحول ستالين الى شبح مطارد بعدما زرع في كل بيت روسي اشباحا تطارد. وعندما عزل خلفه نيكيتا خروشوف ثم مات، دفن في مكان سري في مقابر دير قديم، ولم يكن يسمح سوى لارملته وابنته بزيارة القبر. وقد سألت مرة مدير مكتب «وكالة الصحافة الفرنسية» في موسكو ان كان ممكنا لصحافي ان يذهب الى المدفن ولو بدافع الفضول. فتطلع الرجل في السقف ثم في جدار اليمين ثم في جدار اليسار ثم في البلاط ثم في ادراج مكتبه، وبعدما تأكد من ان كل شيء على ما يرام، هز برأسه الى فوق ورفع حاجبيه، واومأ لي بان مثل هذه الاسئلة لا يطرح في موسكو.

لم يكن في نية غورباتشوف ان يكون آخر امين عام للحزب الشيوعي السوفياتي. وكل ما اراده هو ان يفتح كوة للهواء ونافذة للضوء في الجدار الكبير لكي لا يقضي الصدأ على كل شيء. ولكن الحرية لا يمكن ان تتعايش مع كوة والضوء لا يقبل التسلل من النوافذ. لذلك انهار الجدار مرة واحدة عندما تحولت الكوة الى طوفان والنافذة الى شمس حارقة.

فجأة تداعت كل رموز الاسوار: سقط الجدار في برلين. وهجرت تشيكوسلوفاكيا نفسها عبر الحدود الى المانيا. وفر جيفكوف في بلغاريا. وسقط نيقولاي تشاوشسكو وعالمته الكبرى ايلينيا الممجدة، فوق كومة من القش في زريبة للابقار قرب بوخارست.

اطلق غورباتشوف صفارة لم يكن يعرف انها ستؤدي الى كل هذا الانجراف الثلجي المريع. ولم يكن يعرف حجم الفقر المخبأ واعداد المآسي وان كل ما كان قد تحقق هو الملفات التي كدستها «الستاسي» عن الناس والازواج والابناء وهوايات الناس وماذا يقرأون وهل ينامون على الجانب الايسر ام على الايمن ويهددون بذلك امن الثورة ومجد الانجازات الكبرى التي لم يكن بينها الشبع ولا الكرامة البشرية.

كاد غورباتشوف يقلب العالم اجمع عندما ذوق الناس طعم الحرية. وفي يوم واحد كادت البانيا انور خوجة تبحر على ظهر السفن المحشوة بشرا الى ايطاليا. وتحول اريك هونيكر زعيم المانيا الشرقية المرهوب الى سجين يبحث عن مصح. وبقيت السفينة «مير» تحلق وحيدة في الفضاء رمزا للعلم الذي اراد ان يسابق السماء بدل ان يشبع الناس من البطاطا والملفوف. وقد استطاع النظام السوفياتي ان يبقي جثمان لينين مسجى كالاحياء لكنه اخفق في الحصول على مشاعر حي واحد. فلما فتح غورباتشوف الباب للحقيقة اطلت ومعها جميع الاشباح التي تركها ستالين في ثلوج سيبيريا واقبية موسكو.

تعلمت بكين الدرس على الفور وحولت الكوة الى ثقب والنافذة الى كوة. وتركت جزيرة صغيرة تدعى هونغ كونغ تزدهر وتناطح السحاب وتتقدم مصارف العالم، فيما مليار ونصف مليار صيني آخر يحلمون بلمحة من الجزيرة التي «استقلت» عن بريطانيا لكنها تعلمت خلال سنوات الاستعمار ان لا حياة من دون حرية.