قرار طالبان يصدمنا ولا يفاجئنا

TT

في العام الماضي زارني في بيتي وزير الصحة في حكومة طالبان الحاج ملا محمد عباس أخوند، بعدما قدم الى مصر للمشاركة في اجتماع دعت اليه منظمة الصحة العالمية، وهي احدى المنظمات الدولية النشطة في افغانستان، وأراد الرجل ان يؤدي صلاة العصر، فقدته الى حجرة مكتبي ووضعت أمامه سجادة الصلاة، لكن وقف متململاً وهو يتطلع الى ارجاء الحجرة، التي وجد فيها بعضاً من التماثيل الخشبية والبرونزية التي كنت قد اقتنيتها من دول افريقية وآسيوية زرتها، ثم قال لي وعلامات الحرج بادية على وجهه، كيف أصلي وسط هذه الأصنام؟ فقلت له ان هذه الفكرة لم تخطر على بالي، لأنني أتعامل معها باعتبارها منحوتات وجماليات تعبر عن ثقافات وتقاليد شعوب وقبائل تعرفت عليها في ترحالي، فسكت الملا أخوند على مضض، ثم أدى الصلاة، وانضم الى مجلسنا بعد ذلك في هدوء.

حين غادر الجميع البيت، لاحظت وأنا أطل من الشرفة ان مرافقيه خرجوا الى الشارع، بينما تأخر عنهم الوزير الطالباني بعض الوقت، ثم لحق بهم بعد ذلك، وبدافع الفضول سألت واحداً منهم، كان يترجم الحديث من اللغة الباشتونية الى الانجليزية، عن السبب في تأخر الوزير في الخروج من البناية. فسكت لحظة ثم قال بصوت هامس انه شك في صحة صلاته وسط حجرة بها بعض الأصنام، واعتبر ان وجودها أفسد تلك الصلاة، لذلك فانه افترش الأرض في الطابق الأرضي من البناية. وأعاد صلاة العصر مرة أخرى كي يطمئن قلبه ويهدأ باله.

تذكرت هذه القصة حينما طالعت في الصحف قرار قيادة حركة طالبان تدمير التماثيل الموجودة في بعض مقاطعات افغانستان، التي تعد آثاراً تاريخية فريدة، بينها تمثال لبوذا هو الأكبر في العالم، محفور في صخور مقاطعة «اسيان» منذ ألفي عام، وهو بارتفاع 55 متراً، أي ما يعادل بناية من عشرين طابقاً تقريباً.

وفي ما نقلت وكالات الأنباء فان هذه الخطوة اعقبت اعلاناً من جانب الملا عمر، زعيم الحركة جاء فيه ان الاحتفاظ بمثل هذه التماثيل مخالف للشريعة الاسلامية، التي أمرت بازالة الاصنام، و... ان بعض الناس يؤمنون بهذه التماثيل ويصلون لها، وهي معتقدات لا يمكن ان نقرها، وقد اعتبر وزير خارجية طالبان ان قرار هدم التماثيل نهائي ولا رجعة فيه وان وزارتي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاعلام ستشرفان على عملية التنفيذ، التي ينبغي ألا تعد تحدياً للعالم ـ على حد تعبيره ـ وانما «لأن لدينا اسبابنا الخاصة وقوانيننا الخاصة التي نتصرف بموجبها».

القرار صارم لا ريب، لكنه ليس مفاجئاً بحال، فحركة طالبان منذ ظهرت في الأفق الأفغاني اواخر عام 94م، من تحت انقاض الاقتتال بين فصائل المجاهدين الأفغان، ظلت وفية لميراثها الثقافي، الذي استقته من المدارس الدينية «الديوبندية» المنسوبة الى قرية «ديوبند» في الهند التي أسس فيها بعض شيوخ المسلمين في منتصف القرن التاسع عشر تقريباً (عام 1867م) مدرسة دينية ذاع أمرها، للدور الذي قامت به في خدمة السنة النبوية والعلوم الدينية الأخرى، حتى اطلق عليها وقتذاك «ازهر الهند». وفي عباءة تلك المدرسة خرجت آلاف المدارس الأخرى على نمطها، وانتشرت في ارجاء باكستان، حتى وصلت الى «قندهار» الأفغانية وهي المنطقة النائية والمتخلفة القريبة من الحدود الباكستانية. وضعفت المدارس بمضي الوقت، وظلت محافظة على مناهجها وأفكارها التي تبنتها في منتصف القرن التاسع عشر، حتى اعتبرت معاقل للفكر السلفي المتزمت والمشوه، وهو الفكر الذي وجد أرضاً خصبة له في قندهار التي يتسم أهلها الفقراء بالخشونة والعناد والمحافظة الشديدة.

جماعة طالبان خرجت من قندهار وزعيمها (أمير المؤمنين) الملا عمر، لا يزال يقيم هناك الى الآن، والملا محمد عباس اخوند وزير الصحة الذي رويت قصته معي قبل قليل، كان احد الذين تعلموا في مدارسها الدينية، وكانت امنيته ان يصبح شيخاً للحديث، ولكن «أمير المؤمنين» كلفه بالوزارة فامتثل ليس فقط لما في الوزارة من جاذبية ترجح كفتها على المشيخة، في نظر البعض، ولكن لأن كلام أمير المؤمنين لا يرده.

الثقافة الديوبندية هذه رافضة للحداثة بخيرها وشرها، ومعادية للفنون بالمطلق، ومعادية للمرأة، لكن ما هو أخطر من ذلك كله ان معارفها الدينية مبسطة للغاية، وساذجة الى أبعد الحدود، وما منع التصوير والتلفزيون، ومنع النساء من التعليم والعمل وابقاؤهن في البيوت، وفرضهم اطلاق اللحى بطول معين على جميع البالغين، وابطالهم بعض الألعاب الرياضية، ما ذلك كله إلا من افرازات هشاشة الثقافة الدينية وتهافتها.

لا غرابة في ذلك، فهذه الثقافة ما زالت عند صورتها في منتصف القرن التاسع عشر، ثم ان أغلب الذين يتولون زمام الأمور في الحركة هم من طلاب المدارس الثانوية الذين لم يكملوا تعليمهم، ومصطلح «طالبان» معبر بأمانة عن مستواهم المعرفي المتواضع، الأمر الذي يسوغ لنا ان نصف اغلبيتهم بأنهم من انصاف المتعلمين. وما الفتاوى والتعليمات الغريبة والمجافية لروح الاسلام ومقاصده التي تصدر عنهم بين الحين والآخر الا نتاج تلك الحالة المعرفية، حيث شريحة من ذلك القبيل لا بد ان تصدر قرارات من ذلك النوع.

حين زرت افغانستان قبل سنتين والتقيت عدداً كبيراً من مسؤولي وعناصر حركة طالبان، ضيعت نصف وقتي في مناقشات عقيمة معهم لأنهم كانوا يأخذون علي انني لا ارتدي العمامة، ولا أطلق لحيتي، وارتدي ملابس الكفار، وكنت اضطر الى الرد على ملاحظاتهم، وحين كانت المناقشات تصل الى الكليات والمفاصل، كنت استشعر انهم عاجزون عن استقبال الكلام، أعني انني حين كنت احدثهم عن المقاصد ومراتبها وعن ضرورة التفرقة بين العادات والعبادات، وبين الأصول والفروع، وبين ما هو قطعي وما هو ظني في النصوص، وحين كنت ادعوهم الى التفكير بمنطق الأولويات واجراء الموازنات، التي تضع الأهم قبل المهم، وتقبل بالضرر او المفسدة الأدنى اتقاء لضرر او مفسدة اكبر، مثل هذا الكلام لم يكونوا على استعداد لفهمه او التفكير فيه، لانهم حفظوا كلاماً بسيطاً ومسطحاً يركز على بعض التعاليم والأوامر والنواهي ويفصلها عن تلك الخرائط والقواعد التي أشرت اليها.

سألت الملا أخوند حين لقيته في كابول: لماذا تحرمون التصوير؟ فرد قائلاً انهم لم يحرموه، ولكن الله هو الذي حرمه، وأخرج من جيبه كتيباً صغيراً مكتوباً باللغة الاردية، وقرأ منه نصوصاً تنذر المصورين بعذاب الله يوم القيامة، وحين قلت له: هل تعتقد ان الكاميرات التي تصور بها في هذا الزمان كانت معروفة في العهد النبوي؟ رد قائلاً ان أي تصوير محرم شرعاً! واذا كان ذلك هو حالهم مع التصوير فلا بد ان مشكلتهم مع التماثيل كانت اكبر. ولك ان تتصور مشاعرهم ازاء تمثال هائل لبوذا منتصب بارتفاع 55 متراً، اذا قارنت ذلك بواقعة وزيرهم الذي اعتبر صلاته فاسدة لمجرد انه كان في الحجرة تمثال خشبي افرنجي بارتفاع 60 سنتيمتراً ومنحوتات برونزية صغيرة بحجم الكف، واذا كان صاحبنا قد اعتبر تلك القطع الصغيرة بمثابة اصنام وأوثان، فما بالك به او بهم وهم يشاهدون بأعينهم تمثالاً لبوذا هو الأكبر والأضخم في العالم، او تماثيل أخرى قريبة منه او دونه. لن استبعد في هذه الحالة ان ينظر الى التمثال وأضرابه بحسبانها مفسدة كبرى يجب ان تزال، والا حلت بهم اللعنة في الدنيا والآخرة.

المدهش في الأمر انهم لم يدركوا ان هذه التماثيل التي يسعون الى تحطيمها كانت موجودة حين فتح المسلمون تلك البلاد في القرن الهجري الأول، حيث لا يتصور احد انهم اكثر غيرة على العقيدة من أولئك الفاتحين الأوائل، ولضيق الأفق او قلة المعرفة فانهم لم يلاحظوا ان الاسلام لا يدخل بلداً من بلاد الحضارات القديمة إلا وأبقى على تراثها الحضاري، كما هو، لم يمس. حدث ذلك في مصر، التي تركت آثارها ومعابدها الفرعونية على حالتها، وكذلك فعل المسلمون مع التراث الفارسي. بل ان المسلمين الذين حكموا الهند لمدة قرون تركوا «اصنامها» كما هي، ولم يمسوها بسوء.

لا يقف ضيق الأفق عند ذلك الحد، ولكنه يتمثل ايضاً في ان هؤلاء الذين أعلنوا الحرب على التماثيل بحسبانها اصناماً، يحكمون بلداً مدمراً ومتخلفاً وغارقاً في المشكلات الى أبعد الحدود السياسية والاقتصادية والثقافية، الأمر الذي يفرض على الأسوياء وذوي العقول الرشيدة منهم ـ ان وجدوا ـ ان يكدسوا جهدهم للانشغال بتلك المشكلات، ومحاولة تخفيف معاناة ناس في ذلك البلد البائس، الذي أذله الاحتلال ودمره الاستغلال.

صحيح ان ثمة تفاوتا في مواقف الفقهاء، حول حرمة التماثيل وحلها، لكن ذلك الخلاف منصب على ما يصنعه المسلمون، ثم انه لا يمس بحال ما صنعه او يصنعه غير المسلمين، وما كتبه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي يعبر عن وجهة النظر التي رأت ان الأصل هو تحريم التماثيل التي يصنعها المسلمون، وان ما صنعه الأقدمون قبل الاسلام يعد تاريخاً حياً، وقد يفهم ان تحطم التماثيل اذا عدت خطراً على عقائد المسلمين يهدد بفتنتهم في دينهم، ولكن المسلمين في أفغانستان او في غيرها يتعاملون مع تلك التماثيل بحسبانها من آثار ابداع الأقدمين في فن النحت.

أما الشيخ محمد عبده فقد عبر عن وجهة نظر أخرى حين زار جزيرة صقلية في بداية القرن الماضي، فقد امتدح حفاظ الصقليين على الرسوم والتماثيل، وقال انها قد حفظت من احوال الأشخاص في الشؤون المختلفة، ومن احوال الجماعات في المواقع المتنوعة، ما تستحق به ان تسمى ديوان الهيئات والأحوال البشرية. وحين تساءل عن حكم الشريعة في الرسوم والتماثيل التي تصور البشر في انفعالاتهم النفسية او اوضاعهم الجسمانية، فانه رد قائلاً ان معنى العبادة وتعظيم التمثال أو الصورة قد محي من الأذهان وان النصوص التي انذرت المصورين بالعذاب تنصرف الى أيام الوثنية، حين كانت الرسوم والتماثيل تعد شاغلاً عن الله سبحانه او من تجليات الاشراك به، وخلص الى ان الشريعة الاسلامية أبعد من ان تحرم وسيلة من أفضل وسائل العلم، بعد تحقيق انه لاحظ فيها على الدين، لا من جهة العقيدة ولا من جهة العمل.

بقيت بعد ذلك ملاحظات، الأولى تتعلق بالصدى العالمي الذي أحدثه قرار قيادة طالبان وقد عبر عن غيرة محدودة، وغضب تعددت صوره ازاء ذلك القرار الأخرق، الذي يمثل عدواناً صارخاً على تراث الانسانية. وقد احسنت منظمة الصروح التاريخية الايرانية حين اعربت عن ادانتها واحتجاجها على المسلك الطالباني، غير ان ما يلفت نظرنا في الموقف الغربي انه لا يخلو من النفاق فقد سكت الجميع ازاء هدم متعصبي الهندوس للمسجد «البابري» في الهند قبل ثلاث سنوات، وهو المسجد العريق الذي تجاوز عمره سبعمائة عام. ورغم انه يعد بدوره من تراث الانسانية، إلا ان الهدم تم على مرأى من الجميع، ولم تتحرك للدفاع عنه اي مؤسسة ثقافية في الغرب، بما في ذلك منظمة اليونسكو، ويجري الآن بناء معبد هندوسي مكانه، الذي أشاع الغلاة بين العوام انه في الأساس موضع ولد فيه الإله «راما»! من ناحية أخرى، فان الموقف الغربي ازاء العدوان على انسانية المسلمين، أقل بكثير من غضبه المعلن ازاء العدوان على ثروات الانسانية، وإذ نؤيد ونختص بالموقف الأخير، ونعتبره تصرفاً مسؤولاً في موضعه تماماً فاننا لا نستطيع ان نكتم تساؤلاً عن السبب في التقاعس الغربي عن ادانة الجرائم التي ترتكب بحق الانسانية، في الأرض المحتلة وفي شيشينيا وكشمير وتركستان الشرقية، وغيرها من المناطق التي تشهد تلك الجرائم التي نشير اليها، حيث من حقنا ان نطالب بموقف شريف وحازم ازاء العدوان الذي يتعرض له اولئك البشر اسوة بالغضب المعلن دفاعاً عن تماثيل الحجر.

ملاحظتي الثانية تتعلق بموقفنا نحن في العالم العربي والاسلامي ويلخصها التساؤل التالي: هل كان يمكن ان تستمر حماقات وأخطاء النظام الطالباني، لو انه أقام علاقات طبيعية مع اقطارنا، ربما سمحت بالتواصل والترشيد؟ وهل كان للقطيعة دورها في تكريس عزلة النظام وانغلاقه الفكري والسياسي، مما ورطه في المزيد من الأخطاء والسياسات الخرقاء؟ ليست عندي اجابة عن التساؤل، لكن أظن انه يستحق التفكير.