الطاعون الجديد

TT

الذعر الذي يجتاح اوروبا من وباء «الحمى القلاعية» يذكر الناس بالرعب الذي دب فيها وفي العالم زمن «الطاعون» و«الهواء الاصفر»: جرثومة صغيرة، يقال انها انتقلت من آسيا، سوف تدمر هنا تجارة اللحوم والمواشي في اغنى قارات العالم. كارثة الحمى بعد كارثة «جنون البقر» وفي الحالتين، خسائر مالية لا يستطيع ان يحدها احد: 11 مليون استرليني في بلد صغير مثل ايرلندا وحدها. من المسؤول؟ في حالة «جنون البقر» المسؤول هو «التقدم» في صناعة العلف. في «الحمى القلاعية» المسؤول هو «التخلف» والبيئة الملوثة، سواء كانت الجرثومة قد جاءت فعلا من آسيا او من اوروبا نفسها. غير ان القاسم المشترك في المسؤوليتين هو هذه «القرية الكونية» التي لم تعد تعرف فيها ان كان طبق اللحم الذي امامك آتيا من اميركا او من تركيا او من الارجنتين او من بريطانيا. لقد اصبحت ابواب الاستيراد والتصدير مفتوحة في كل مكان والرقابة الصحية غائبة او معدومة والاوبئة في حالة تأهب دائم.

عندما بدأت السفر كان في مطار بيروت دائرة خاصة للتلقيح. وكان على كل مسافر في مطارات العالم ان يبرز شهادة تلقيح وان يصرح ما اذا كان قد سافر الى بعض بلدان افريقيا. وحتى اليوم لا تزال الولايات المتحدة تمنع المسافر من نقل اي خضار او فاكهة. وكان على المسافر من فرنسا الى بريطانيا ان يترك هرّته او كلبه ستة اشهر كاملة في الحجر الصحي قبل ان يسمح له بادخاله الى البلاد. اما اليوم فلا حواجز امن او شرطة او صحة بين البلدين. والمتنقلون في سياراتهم عبر اوروبا يستطيعون نقل قطيع كامل من دون ان يسألوا عن شيء. والثمن طبعا هو هذا الثمن في المال والصحة والاقتصاد وخصوصا في الخوف الذي ينتاب الناس من استخدام اي مشتق من مشتقات المواشي التي هي في عدد مشتقات البترول. فهي ليست اللحوم وحدها بل في الحلويات وفي المساحيق وفي العلف وفي كثير من المركبات الاخرى ومنها بعض الادوية.

القائدة الوحيدة من كل هذا الذعر انه يقنع الانسان الصناعي و«المتقدم» بالعودة اكثر فاكثر الى الطبيعة. الى الزراعة البدائية الخالية من السموم البطيئة والكيماويات القاتلة، الى السماد الطبيعي والدجاج المحتضن من دجاجة لا من آلة، هي في النهاية ام مزيفة تعطي البيضة نسبة معينة من الدفء ونسبة اخرى من الرطوبة، فيخرج الصوص ظنا منه انه سيلقى اما، لكنه يلقى فولاذا وألف صوص آخر وقعوا في الفخ نفسه قبل ان يقعوا في نفس الاشياش!