منتدى دافوس.. وقمة عمان

TT

كتبت مرة عن مؤتمر «دافوس» الاقتصادي في سويسرا ثم قررت الا اعود الى الموضوع. فقد رأى بعض الزملاء الاعزاء الذين يحضرون «دافوس» بانتظام، وبعض الاصدقاء الذين يذهبون الى هناك ايضاً، وحتى بعض المسؤولين العرب ـ الاعزاء هم كذلك ـ ان في كلامي عن دافوس اهانة شخصية لهم، ورأى البعض الآخر ان الصحافة انقسمت الى قسمين: الصحافيون الذين يحضرون دافوس والصحافيون الذين لا يحضرون! ورأى بعض آخر ان ثمة «ضيقة عين» من الفريق الذي لا يحضر، ومنه الداعي لكم بدوام الازدهار وطول الاعمار. واما عن «ضيق العين» فقد اعلنت على هذه الصفحات غير مرة، انني من القائلين بأن تبلى عين الحاسد بألف عمى، والعين الضيقة بألفين.

ها أنا اعود مضطراً الى دافوس. ولو بعد حين. لقد تساءلت ما الفائدة من الذهاب الى دافوس؟ ماذا جنى الرئيس حسني مبارك (الذي توقف الآن عن الذهاب) وماذا جنى الرئيس ياسر عرفات، وبأي صفة يحضر المسؤولون العرب هذا التجمع: هل بصفتهم يمثلون الشعوب الفقيرة والمسحوقة والمهاجرة الى كل جهات الارض، ام بصفتهم يمثلون الشعوب الكفية المزدهرة التي لم يتبق لاكتمال سعادتها سوى منتجع دافوس؟

رجال الاعمال احرار في الذهاب الى اي مكان، هذا حقهم وتلك طاقتهم والمال مالهم. والزملاء ايضاً احرار، لأن حرية الانتقال في الدساتير العالمية توازي حرية القول. لكنني اتساءل من جديد: اي قسم او فئة من الشعوب تمثل في دافوس؟ هل البطالة التي تبلغ 40% في احسن الاحوال لا في اسوئها؟ هل الفقر الذي يشمل في بلدان كثيرة ثلثي الشعوب، ايضاً في احسن الاحوال؟ هل مستوى المعيشة الذي لا يعادل المستوى السويسري واهل دافوس وسكانها وعمالها وطباخيها، حتى بالنسبة الى 10% من مجموع سكان العالم العربي؟

ان دافوس ومؤتمرها واهدافها وسبب قيام مؤتمرها وهمومها المعلنة والدفينة، هي للشعوب المترفة. وهناك امكنة كثيرة اخرى وعواصم كثيرة يستطيع فيها المسؤولون العرب ان يطلبوا المساعدات وان يدعوا الى الاستثمار. ولا شيء جدياً من هذه وتلك يمكن ان يتقرر في دافوس التي تنتظر ـ دائماً وابداً ـ القرار الاخير من البنك الدولي وتقارير المناطق الممنوعة من واشنطن. ولا تستطيع دافوس، في الصيف او في فصل الشتاء والتزلج، ان تقنع مصرفاً اميركياً واحداً بأن يرفع قبرص (وليس سورية ولا لبنان ولا الضفة) عن لائحة الاماكن الخطرة والاكثر خطورة. اي كل ما هو شرق اوسطي وكل من هم في الهَّم شرق!.

اذا كان حضور المسؤولين العرب، الذين يمثلون دولاً محتاجة وشعوباً معوزة، قد ادى في دافوس الى اي نتائج جدية على الاطلاق، فوعد مني ان يكون هذا آخر مقال عن اي منتجع سويسري، اما اذا لم يكن ذلك قد تحقق، فإنني اتمنى على المسؤولين العرب (وليس على الزملاء ولا على رجال الاعمال) ان يتذكروا ان قضيتهم هي الفقر لا المال والكفاية لا الازدهار والرغيف لا الثروة، وان مكانهم الحقيقي هو في عواصم القرار وفي المؤتمرات المعنية بالشعوب والامم، وفي التكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى، وفي اللقاءات والاجتماعات التي تبحث وتدرس وتقرر في مساعدة الشعوب المقهورة على مواجهة افظع صور الفقر والعوز والتخلف، من غزة الى طرابلس (لبنان، لا طرابلس افريقيا) الى المغرب الى الجزائر الى شمال العراق الذي «يملأ البحر سفينا» مليئاً بالبؤس ويترك الحاملات تولد في المراكب المكتظة بالجائعين والنتنة برائحة البول والتبرز والموت. بالاذن من محمد شكري.

ليس دافوس المؤتمر الذي يجب ان نحضره. ولست اعاني من هاجس او مرَكَّب نقص يدعى دافوس. لكنني انتميت وسوف اظل انتمي الى هذا الجانب من العالم وهذا الشق من الحياة، الى جانب البؤس العربي الذي يملأ الدنيا. ولا شيء ينسينا فقراء هذه الامة. لا الحياة في لندن ولا الحياة في باريس ولا السفر في العالم. فنحن محاطون كيفما اتجهنا برائحة الفقر. الكثير من اهلنا فقراء. والكثير من اصدقائنا فقراء. والكثير من بلداننا فقيرة. وراحة الشخص لا تعني ابداً راحة المجموع. ويجب الا نزيد الاهانة ذلاً بالدعوة للانتماء الى غربة حقيقية وادعاءات اكثر برودة من ثلوج سويسرا.

لماذا عدت، دون مناسبة، للكتابة عن دافوس وكأنها داحس شخصية؟ عدت لأنني انتهيت لتوي من قراءة مجلة «ارابي» التي يصدرها في باريس الزميل ياسر هواري، وفيها متعتان: لقاء مع امين معلوف يقول فيه «اسوأ انواع البؤس عدم احترام الذات»، ومقال لوزير خارجية فرنسا الاسبق ميشال جوبير عن مؤتمر دافوس حيث تم «تكبير الاشياء فوق المعقول وتفسيرها وفق الاهواء والدعوة لها وفق الغايات».

تأسس منتدى دافوس الاقتصادي العالمي العام 1970 على يد كلاوس شغاب وكلود سمادجا. وقد كتب كل منهما مقالاً في «الهيرالد تريبيون» وفي «لوتون» السويسرية مع انعقاد المؤتمر الاخير، يدافعان عن فكرته، ويرجو المسيو سمادجا الآخرين «الا يصموا دافوس بالشر» والا يعتبروها جزءاً من العولمة وفرعا من طغيان الشمال الغني على الجنوب الشديد الفقر. لقد شارك كثيرون آخرون من العالم الثالث في مؤتمر دافوس، لكنهم شاركوا كدعاة، كمدافعين، شاركوا كنقابات وهيئات اجتماعية وعمالية. حتى الولايات المتحدة شاركت عبر رئيس الاتحاد العمالي. وارسلت الهند فاندانا شيفا مديرة المؤسسة الهندية للعلوم والبيئة التي بينت للمؤتمر الاضرار الاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي لحقت بالعالم من جراء العولمة. ما هي ورقة العمل العربية التي قدمت الى المؤتمر؟ تحت اي اسم؟ ضمن اي نقاش او مطالعة او شكوى؟ ما هي المنظمة العربية التي حضرت الى جانب 69 مندوباً عن المنظمات المعنية حقاً بحياة الشعوب وهمومها ورغبتها؟

الم يكن من المفترض ونحن في مثل هذا التاريخ، ان يكون «رأي» الخميس عن القمة العربية المقبلة؟ ربما. لكنني وقد حضرت «اول» قمة في الاسكندرية العام 1964 وانا شاب في الثالثة والعشرين من العمر، فقد شعرت بعد حين انني تركت كل احلامي هناك وان كل هذا العمر لم يكف لأن نتقدم لحظة واحدة نحو اي هدف عربي. فقد كان الهدف من تلك القمة التجمع من اجل منع تحويل روافد نهر الاردن. وبعد ثلاثة اعوام اصبح شعارها تحرير الاراضي المحتلة على الضفة الغربية من النهر. وسيناء، والجولان. وجنوب لبنان. وطبعاً القدس. وتهدف كل قمة الى اتفاق عريض حول قضية فلسطين والصراع العربي الاسرائيلي، لكنها لا تلبث ان تتحدر الى السعي للاتفاق على حل الخلافات العربية. ولا يلبث الطلب ان يصبح «الحل العربي» اولاً من اليمن العام 1964 الى العراق العام 2001 من حرب الصحراء الى حرب لبنان، من حرب عمان الى معارك بيروت. من الاحلاف الى المحاور. من الصراعات السياسية الى النزاعات العسكرية. من وحدة الصف الى الصفوف الواحدة. من الخلاف لماذا لا تكون منظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً، الى الخلاف لماذا تكون المنظمة ممثلاً شرعياً وحيداً.

عندما اعلن جورج دبليو بوش خلال المعركة الانتخابية انه يؤيد نقل السفارة الاميركية الى القدس، قلنا جميعاً انه كلام انتخابي يمحوه غداً نهار الرئاسة. لكن في فجر هذا النهار كان اول سياسي استقبله جورج بوش يدعى ارييل شارون وكان اول كلام قاله هو عن نقل السفارة الى القدس. فماذا ستقول القمة غداً.

فلنعد الى دافوس: عندما يتقرر في دافوس البحث في شقاء الاشقياء وبؤس البؤساء والبطالة التي تشل العالم العربي وهذه المكابرة الفارغة عن امة تهاجر بالمراكب الشراعية حيث تلد النساء الحبالى... يومها سأكون اول من يحضر. اما الآن، فأنا مع ميشال جوبير. مقاطع!