... ولماذا النوم بين قبور اليهود؟!

TT

كان الحديث عن اتجاه الى عقد مؤتمر «التعديلية والصهيونية» في بيروت نهاية هذا الشهر، يثير ضجيجاً متزايداً واستغراباً متسعاً في حين حاذرت الدولة في البداية على اعطاء رأي في هذا الموضوع.

لكن الحكومة اللبنانية اتخذت قرارا بمنع انعقاد هذاالمؤتمر في بيروت، وحسنا فعلت في هذا السبيل، اذ ان في وسع منظميه عقده في أوروبا أو في اميركا كما كان يحصل عادة، لكن كان هناك كل الاعتراضات على عقده في بيروت أو أي عاصمة عربية أخرى.

وقياسا بما كان سيسببه عقد هذا المؤتمر في بيروت من أذى سياسي ومعنوي واخلاقي ودعائي للبنان وما حققه من انتصار في الجنوب، لم يتوان المتنورون في القول ان الامر لن يكون استضافة مؤتمر بمقدار ما سيكون ابتلاع مؤامرة سترتد سوءا على لبنان والعرب! ماذا في الوقائع؟

منذ بداية هذا الشهر تواترت انباء متقطعة وعلى نحو من الغموض، تتحدث عن ان منظمي مؤتمر «التعديلية والصهيونية» الذي يعقد عادة في أوروبا واميركا، وهم جماعة من «مؤسسة المراجعة التاريخية» Institute For Historical Review الاميركية ومنظمة «الحقيقة والعدالة» Verite Et Justice السويسرية يريدون مؤتمرهم في بيروت وهو يأتي في سياق مساعيهم لانتقاد استخدام اسرائيل والصهيونية موضوع المحرقة النازية (هولوكوست) ضد اليهود لاغراض سياسية ومالية ودعائية. وقبل قرار المنع كان من المستعصى في الاسبوعين الماضيين الحصول على تأكيد أو نفي من السلطات اللبنانية لهذا الأمر، كذلك كانت أحزاب وهيئات وحتى سفارات قد نفت علمها بذلك، في وقت وردت الى بيروت مجموعة واسعة من المناشدات والبيانات الصادرة في أوروبا وأميركا عن هيئات خاصة ورسمية، تدعو الى عدم السماح بعقد هذا المؤتمر، وكذلك فعل السفير الأميركي في لبنان ديفيد سترفيلد.

وفي غضون ذلك رد منظمو المؤتمر بتوجيه انتقادات قاسية الى المنظمات والهيئات التي تعارض عقد المؤتمر وبدعوة الحكومة اللبنانية الى معاملة طلبات الاعتراض «بالاحتقار اللازم الذي تستحقه».

وبغض النظر عن محاولات مدير «مؤسسة المراجعة التاريخية» مارك ويبر تصوير المؤتمر وكأنه «مناسبة تنويرية وسلمية» وان ليس من حق اميركا والمنظمات الصهيونية الضغط على لبنان لمنع استضافته، فإن حلقة الاعتراض عليه اتسعت الى درجة ان هناك من تملكه الذعر من امكان انزلاق لبنان الى ارتكاب هذا الخطأ الفادح.

والواقع ان التدقيق في منشورات المنظمتين اللتين تشرفان على هذا المؤتمر، يؤكد انهما تقودان حملة واسعة للتشكيك في حدوث المحرقة النازية ضد اليهود، أو في عدد الضحايا الذين سقطوا على يد الرايخ الثالث، عبر حملة التطهير العنصري ضد اليهود وعدد من الاقليات الاثنية الاخرى في أوروبا.

من هذا المنطلق وعلى هذا الاساس كان واضحا ان انعقاد المؤتمر يمكن ان يتخذ شكل مؤامرة فعلية لضرب لبنان والعرب، تكون لها آثارها السلبية والمؤذية سياسيا واقتصاديا وثقافيا وانسانيا.

فليس صحيحا ما يزعمه مارك ويبر بأن منظمي المؤتمر «لا ينكرون المحرقة بل يعترضون على استغلالها»، خصوصا إذا تذكرنا ان بعض الكتاب والمؤرخين الأوروبيين الذين سيشاركون في المؤتمر، ينكرون المحرقة صراحة وبينهم مثلا روجيه غارودي مؤلف كتاب «اساطير اسرائيل الحديثة»، الذي كذب حصول «الهولوكوست» كما هو معروف وغرمته المحكمة الفرنسية مبلغ 40 ألف دولار، وكذلك الكاتب الفرنسي روبرت فورسيون والمحامي الالماني هورست مالرو.

على ان قرار عقد المؤتمر في بلد عربي عرف دائما بدوره الثقافي والتنويري، ينطوي على ابعاد خبيثة وسيئة، فلا علاقة لهذا بـ «حرية التعبير» التي اشار اليها البيان، الذي اصدره ويبر في العاشر من الشهر الجاري، إذ في وسع منظمي هذه المؤتمرات ان يواصلوا «حرية التعبير» في أي بلد غربي كما فعلوا في السابق، على الأقل لأن الوجدان الغربي الأوروبي في حاجة الى التحلل من الاثم النازي الثقيل، بينما سيشكل انعقاد المؤتمر في لبنان زجا له وللعرب في مسألة آثمة لا علاقة لنا بها.

ولا حاجة بنا في لبنان والعالم العربي الى الاخذ بالاسباب غير المقنعة لا بل المشبوهة التي كان ويبر يسوقها في الحديث عن دوافع عقد المؤتمر في بيروت، حيث يحدد أمرين:

الأول: تعزيز الحوار والتعاون بين الكتاب والمؤرخين الغربيين والعرب والمسلمين،... ولا ندري لماذا نختار تعزيز هذا الحوار في مسألة ستضرنا فكريا على الأقل وكأننا نقف الى جانب الانكار أو محاولات التحلل الأوروبي من إثم المحرقة.

أما الثاني فهو: توسيع الادراك في العالم بما فيه العالم العربي، لكيفية استخدام المحرقة كسلاح سياسي ومالي لدعم المصالح الاسرائيلية والصهيونية، وهذا امر ينطوي على مقدار كبير من الالتباس والخطورة، خصوصا ان الانخراط العربي في الصراع ضد اسرائيل كان سيبدو عبر هذا المؤتمر، وكأنه يتلون بالمؤثرات الفكرية المتصلة بالنازية وبالمحرقة وانكارها! وبغض النظر عن الضجيج الذي أثير حول هذا المؤتمر، فإن الاستنتاج الاساسي والجوهري هنا، يمكن ان يبرز من خلال المثل العامي اللبناني الذي يقول: «لا تناموا بين القبور وترون احلاما موحشة» وعليه كان السؤال: ما حاجة لبنان والعرب الى النوم بين القبور اليهودية، التي يحاول بعض الكتاب التحريفيين الغربيين من امثال غارودي وفورسيون نبشها في اطار تسوية حسابات اوروبية قديمة لا علاقة للقضية الفلسطينية والصراع العربي ـ الاسرائيلي بها من قريب أو بعيد؟

وكان واضحا «ان هذا المؤتمر يجب ألا يعقد في بيروت او أي مكان من العالم العربي، رغم ان الاعتراضات الصهيونية العارضة ضد فكرة عقده توسلت ضمنا اثارة حماسة متهورة عند البعض لعقده، فالاعتراض كان يقوم على مبدأ التحريض على الانزلاق في مثل هذا الخطأ المروع، ولا شيء كان يوازي ضجيج الاعتراض الظاهري المشار اليه الا الارتياح الضمني في تل أبيب الى ما يمكن ان يوفره هذا المؤتمر من فوائد للصهيونية، واسرائيل في حال انعقاده.

ولم يكن الوقت ليتأخر حتى ترد الدوائر الصهيونية الكرة الى شباكنا «فلقد اجتهدنا كثيرا وضحينا كثيرا لكي نضع بداية مؤشرات تقول ان الاسرائيليين عبر ممارساتهم ضدنا هم «نازيو العصر»، ليس لأن «الضحية تتوق الى لعب دور الجلاد» كما يقول سيغموند فرويد اليهودي، بل لان ملامح «الهولوكوست الاسرائيلي» ماثلة أمام أعين العالم، سواء في جنوب لبنان، حيث كانت مجزرة قانا والمنصوري وغيرهما، أو في الضفة الغربية وقطاع غزة حيث تتشكل معالم أوشفيتز معاصر ضد الفلسطينيين.

وليس سرا ان الدعاية الصهيونية اصيبت اخيرا بكثير من الارتباك وهي تعاين يوميا عبر الفضائيات ووسائل الاعلام الحديثة ما تخلفه الممارسات الوحشية الاسرائيلية من تعديل ضروري في هوية «الضحية» التي حرصت دائما على الاستئثار بها والتبشير بأنها يهودية وتستحق العطف والمساعدة.

لقد فجعت الدعاية الصهيونية مثلا بصورة استشهاد محمد الدرة التي عممت على نطاق دولي، ليقوم التباس كبير بين صورة الجلاد الذي طالما ادعى انه ضحية النازية وبين الضحية الحقيقية في فلسطين، إذ ان المحور الاساسي للدعاية الصهيونية يقوم على الاستئثار بصورة الضحية، فالنازية في نظر الصهيونية ليست مسألة مقتصرة على المحرقة التي نفذها الرايخ الثالث، انما هي نسبيا في كل شعور يعادي السامية، وهي إثم يقتضي التكفير عنه في كل زمان ومكان! في ضوء هذا الواقع كان يمكن ان يشكل المؤتمر مدخلا ممتازا بالنسبة الى الدعاية الصهيونية لاعادة ترميم صورة «الضحية اليهودية» من خلال القول مثلا، ليس في العالم العربي، لا في بيروت ولا في غزة واريحا وغيرها، شيء اسمه ضحية، والدليل ان الذين يستضيفون مؤتمرا لتحريف الحقيقة وإنكار المحرقة النازية، لا يمكن ان يكونوا من الضحايا، بل انهم يسوغون الهولوكوست وما يمثله من العار.

هكذا تماما كانت الدعاية الصهيونية سترد وهي تملك وسائل قوية وقادرة ومؤثرة في الرأي العام الغربي، وهكذا كان يمكن لمؤتمر من هذا النوع ان يؤدي خدمة كبيرة لاسرائيل والصهيونية، ولهذا ارتفعت اصوات تقول، يجب ان لا يعقد هذا المؤتمر لا في بيروت ولا في أي بلد عربي، لأن انعقاده سيخلف سلسلة من الأذى الشنيع ومنها:

أولاً: تشويه صورة القضية العربية العادلة والمحقة في مواجهتها مع اسرائيل، من خلال اظهار لبنان والعرب وكأنهم على خط واحد مع النازية، أو كأن المخزون الفكري والسيكولوجي للقضية العربية يتسع أو يفسح مجالا لـ «المشاعر النازية»، بدليل ان مؤتمرا يحاول تبرئة النازيين يجد مكانا له في بيروت! ثانياً: ان حوافز منظمي المؤتمر تنطوي على مقدار كبير من التحريف وتزوير التاريخ، وإن لدوافع تتصل باسقاط الاثم عن الوجدان الأوروبي، وهذا يعني انه مؤتمر تحريضي ضد الحقيقة في المطلق، فما حاجة لبنان البلد المتنور ليكون مضيفا لمؤتمر من هذا النوع؟

ثالثاً: ان لبنان الذي يقدم نفسه دائما كبلد تعايش خلاق بين الاديان والطوائف والاثنيات، في غنى عن اقحام نفسه في الجدال الأوروبي المحموم حول الهولوكوست حقيقة أو أرقاما، فالمسألة مسألة تصفية حسابات غربية ـ غربية، تتصل بسجل نازي آثم ضد التعايش والاثنيات.

رابعاً: ان استضافة لبنان مؤتمرا ضد المحرقة كان سيعطي اسرائيل من الزخر الدعائي والسياسي ما يساعدها في تبرير كل ما تنفذه من اعتداءات ومحارق بالتقسيط ضده وضد العرب.

خامساً: ان لبنان سيقفل بيديه باب المساعدات الغربية والاستثمارات التي تحاول الحكومة استجلابها، ولن يكون في وسع احد ان يجازف في مواجهة التشهير الصهيوني الذي لن يلبث ان يقول مثلا: ان مساعدة لبنان تشكل مساعدة غير مباشرة للاثم النازي! في ضوء كل هذا كان السؤال:

وما حاجة لبنان الى النوم بين قبور اليهود التي حفرها النازيون؟

وفي ضوء كل هذا منعت الحكومة عقد هذا المؤتمر.