... القليل من «الأوكسيجين»

TT

منذ نهاية الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان وعلاقتهما الثنائية المحكومة بالجوار الجغرافي والتداخل التاريخي تمر بتقلبات موسمية كانت تنتهي بغلبة الرابطة القومية والمصلحة المشتركة على اي اعتبار آخر.

وعبرالتاريخ القريب والبعيد، لم يسبق ان تحول شعبا لبنان وسورية الى «شقيقين لدودين»، كما يبدو انهما يتحولان في الوقت الحاضر. ماذا عدا عما بدا حتى غدا الشقاق عنوان المرحلة؟

من حق اللبنانيين الذين يرفضون ان يتهموا بالعقوق في علاقتهم التاريخية بسورية ان يتجاوزوا الاعتبارات السياسية والاقتصادية وحتى الاستراتيجية في تفسير أسباب الجفاء ليتساءلوا عما إذا كان لبنان وسورية يعانيان من «حميمية» علاقتهما الاخوية اكثر مما يعانيان من رسميتها؟ يبدو ان «رفع الكلفة» في التعامل السوري مع اللبنانيين اثر سلبا على علاقة الاخوة. وعلم النفس يعترف بأن العلاقات الحميمة غالبا ما تثير التأفف، والتبرم احيانا، بحكم توثقها. وقد يكون المثل الانجليزي القائل «FAMILIARITY BREEDS CONTEMPT» مصيبا في وصف الحالة النفسية ـ ولا نقول الانفعالية ـ التي تمر بها العلاقة الخاصة بين البلدين.

من الانصاف الملاحظة ان هذه المشاعر، مع ما توحيه من معالم جفاء، ليست قصرا على العلاقة اللبنانية ـ السورية بل يبدو انها تلازم علاقات معظم الدول المتجاورة في سياق تقديم أي منها اولوية الصلة الجغرافية والتاريخية على خاصيتها الاجتماعية، الا أنها قد تكون، بالنسبة للحالة اللبنانية ـ السورية، «أشد مضاضة» من مشاعر غيرهم بحكم نشوئها بين «ذوي القربى».

على سبيل المثال لا الحصر، كان الجوار الجغرافي والعلاقة المميزة والمصالح المشتركة دوافع الوحدة السويدية ـ النرويجية على مدى تسعة عقود (بين عامي 1814 و1905) ومبررات الوحدة النمساوية ـ المجرية على مدى خمسة عقود (من 1867 الى 1918) وحوافزها بين تشيكيا وسلوفاكيا على مدى 75 عاما (من 1918الى 1993) وشعاراتها بين دويلات يوغسلافيا طوال 62 عاما (من 1929 الى 1991)... الى ان توصلت شعوب دول الوحدات الجوارية، بحكم التجربة، الى قناعة خلاصتها ان صلة القربى لا تلغي الخاصية الاجتماعية للشعوب ولا حقها في رعاية شؤونها بنفسها.

حتى الماركسية، رغم قبضتها القوية على السلطة، فشلت في ان تكون بديلا عن هذه الخاصية بالنسبة للعديد من دول الاتحاد السوفياتي السلافية الاصول (اوكرانيا وروسيا البيضاء) فقدمت شعوبها خاصيتها الاجتماعية على عرقيتها واختارت الاستقلال عن موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

سورية نفسها مرت في التجربة وقدمت خاصيتها الاجتماعية الضاربة في التاريخ على شعارات وتطلعات أول وحدة قومية في تاريخ العرب الحديث ولم تتوانَ عن كسر طوق الجمهورية العربية المتحدة عام 1961والعودة الى الذات والذاتية عقب مرورها بحالة ضيق نفس من «حميمية» العلاقة الوحدوية مع مصر.

على ضوء هذه الخلفية يصعب التصور بأن سورية، التي كانت القطر السباق في المطالبة بالمزيد من «الاوكسيجين» السياسي في علاقتها مع القطر المصري إبان الوحدة، غافلة عن ان ما تحتاجه العلاقة اللبنانية ـ السورية الآن هو القليل من «الاوكسيجين» لحمايتها من حالة اختناق.