الولايات المتحدة وروسيا: ماذا بعد التوتر؟

TT

طلبت واشنطن بأن يغادر الولايات المتحدة اربعة ديبلوماسيين روس. وردت موسكو على ذلك بابعاد العدد ذاته من الديبلوماسيين الامريكيين. وتدور الاحاديث في الولايات المتحدة بأن الأمر لن يقتصر على هذا. بينما يقولون في روسيا ان التدابير الجوابية ستتخذ حتماً.

ومعروف ان الذريعة التي كانت وراء هذه الخطوة هي اعتقال احد رجال مكتب التحقيقات الفيدرالي المتهم بالتجسس لحساب موسكو. وانا اعتقد بانها مجرد حجة فقط، ففي واقع الأمر إن المقصود هو قيام الولايات المتحدة بحركة استعراضية ذات طابع سياسي محض. ويبدو ان الإدارة الامريكية الجديدة تسعى منذ البداية إلى اظهار حزمها، وإلى غياب «ميوعة كلينتون»، حسب قولهم، في سياستها.

فما الذي يزعج واشنطن في سلوك موسكو؟، لو حللنا اقوال السياسيين الامريكيين ومقالات الباحثين السياسيين الامريكيين لوجدناها تتضمن قبل كل شيء الدوافع التالية: أولاً ـ ان روسيا تتقارب مع ايران، فقد زار محمد خاتمي رئيس هذه البلاد موسكو منذ فترة قريبة. وخلافا لرأي الولايات المتحدة فإن روسيا تواصل بناء المحطة الكهرذرية في بوشهر، وتقدم إلى الايرانيين الاسلحة التقليدية.

ولكن لماذا يحظر على روسيا القيام بذلك؟، ان المحطة الكهرذرية تبنى تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. أما الاسلحة فتقدم ضمن الحدود التي لا تمنعها القواعد الدولية. وروسيا لا تخرق التزاماتها عن طريق هيئة الأمم المتحدة. زد على ذلك ان تعاون روسيا مع ايران في مختلف المجالات يساعد بحد ذاته، من جانب، على استقرار الوضع في تاجيكستان، ويشكل عقبة في طريق النشاط التوسعي العدواني لحركة طالبان الافغانية، وفي جانب آخر يعزز القوى الاصلاحية في ايران نفسها. وعندما قامت المانيا بالخطوات الأولى لفك طوق العزلة عن ايران في العالم الغربي رحبنا بذلك. وانا قلت لمادلين اولبرايت مراراً بأن سياسة تحويل ايران إلى بلاد منبوذة هي سياسة غير بناءة للغاية. واعتقد بانها كانت تدرك ذلك. ونحن رحبنا بصدق بأولى البشائر التي دلت على ان الولايات المتحدة اخذت ترسل اشارات ايجابية إلى الرئيس خاتمي. فهل يعني ان عدم ارتياح الادارة الامريكية الجديدة من سياسة روسيا يدل على انها قد تتراجع عن الخط الذي رسمته تلك الاشارات الأولى؟ لو صح ذلك، فهو شيء مؤسف.

لكن ربما ان القضية تكمن في مبيعات السلاح إلى إيران؟ إنني اتجرأ على القول بأنه يثير عدم ارتياح اكبر لدى روسيا تقديم صفقات سلاح امريكية إلى باكستان، لا سيما ان بعض السلاح المرسل يمارس دوره في دعم نظام «طالبان» في افغانستان. وقد اظهر هذا النظام وجهه الحقيقي للعالم بأسره. والمسألة لا تكمن فقط في تجاهل زعماء «طالبان» الرأي العام العالمي فهم يقومون بتدمير آثار الحضارة القديمة التي لا تقدر بثمن بل ان افغانستان اصبحت بؤرة للارهاب الدولي والقاعدة الرئيسية له.

ثانياً: طبقاً للتصريحات الامريكية فان دافع الولايات المتحدة لعدم ابداء الارتياح من روسيا يكمن في ان روسيا تتبع نهج تطوير العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والصين والهند والبلدان الاخرى. انهم في واشنطن يعتبرون ذلك «دسائس معادية لامريكا». ومما يثير عصبيتهم على الاخص ان روسيا تعيد علاقاتها مع فيتنام وكوبا وكوريا الشمالية وهي مستعدة لتطويرها. لكن من السذاجة الاعتقاد بان روسيا ستعود إلى سياستها في اعوام 1991 ـ 1993 حين كانت تعلن خلافاً لمصالحها الوطنية عن استعدادها للسير في ركاب الولايات المتحدة.

ثالثاً: ان ما يثير انزعاج الولايات المتحدة كما يبدو هو تطلع كثير من الدول إلى ان ترى روسيا باعتبارها احد «اللاعبين» الرئيسيين على الساحة الدولية. علماً ان هذا الموقف يتخذ حيال روسيا التي ما زالت اليوم لا تتمتع بالقدرة الاقتصادية الكافية، ولم تحل بعد مشاكلها الداخلية الصعبة. وعلى سبيل المثال ان الاقطار العربية قد اقتنعت بجميع سلبيات احتكار الولايات المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط، وتناشد موسكو «تفعيل» دورها في الشرق الأوسط، بينما اقتنعت بلدان البلقان، وكذلك بلدان اوروبية كثيرة، من خبرتها المريرة بمدى خطورة عواقب قصف يوغسلافيا، وتنتظر الآن ان تتمكن موسكو من الحيلولة دون وقوع انفجار جديد في «مستودع البارود» في البلقان.

رابعاً: باعتقادي ان الدافع الرابع لموقف واشنطن ضد روسيا يكمن في ان موسكو تعارض، ليس فقط بدأب، بل وبدعم متزايد من قبل دول كثيرة، خطط الولايات المتحدة في اقامة النظام القومي المضاد للصواريخ والذي يمكن ان يخل بنظام تقليص الاسلحة الاستراتيجية الهجومية، ذلك النظام الذي صمد وأظهر مردوده الطيب. ولا يثير ابتهاج الولايات المتحدة أيضاً الموقف الروسي الذي يحظى بتأييد كثير من البلدان بصدد ضرورة التخلي عن سياسة فرض العقوبات الاقتصادية على الدول التي «لا تروق» انظمتها إلى واشنطن.

فكيف ستجري الاحداث في المستقبل؟ يتنبأ بعض المراقبين منذ الآن بعودة «الحرب الباردة» وانا لست في عداد المتشائمين. وبالاحرى انا اتفهم ملاحظة جيمس بيكر وزير الخارجية الاسبق في عهد بوش الأب. فحسب قوله ان ادارتهم كانت على مدى الاشهر الستة ـ الثمانية الأولى تبحث عن السياسة التي ستتبع حيال روسيا.

ونحن نأمل في ان ادارة بوش الابن ستحتاج إلى فترة اقل من اجل ذلك، والشيء الاهم ان يغلب ذلك الموقف الذي سيقود في نهاية المطاف إلى اقامة علاقات طبيعية مع روسيا الاتحادية.

اما في ما يتعلق ببلادي فتتوفر لدي كافة المسوغات للاعتقاد بان قيادتها تلتزم وستلتزم بنهج اقامة علاقات طبيعية، ومتكافئة حتماً، تقوم على اساس المنفعة المتبادلة ولصالح المجتمع الدولي بأسره، مع الولايات المتحدة.. العلاقات التي تعتمد على التفهم المتبادل لواقعيات العالم المعاصر وسبل تطويره.

* رئيس الحكومة الروسية الاسبق ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»