ألبان مقدونيا رضوا بالهم.. لكنه لم يرض بهم

TT

مشكلة البان مقدونيا انهم يتعلقون بحلم لا يزال يراودهم في ان يصبحوا يوما ما مواطنين عاديين في بلدهم ويتساوون مع غيرهم في الحقوق والكرامة غير ان ذلك الحلم طال انتظاره، ووجدوا انهم يتحملون من المعاناة والتمييز والقهر اكثر مما تحتمله طاقتهم. وبعد ان فاض بهم الكيل، ولم يروا في الافق املا يبشرهم بقرب تحقيق حلمهم الانساني والبسيط، كان انفجارهم الذي بدا نتيجة طبيعية، لا غرابة فيها ولا شذوذ.

لقد رضوا بالهم لكن الهم لم يرض بهم. منذ قررت الدول الاوروبية تقطيع اوصال الدولة العثمانية، وتمزيق البانيا، التي كان رجالها هم القوة الضاربة للجيش العثماني، وتم لهم ما أرادوا في اتفاقيتي برلين عام 1878 ولندن عام 1913، منذئذ قطعت البانيا اربا ووزعت اراض منها على بعض دول البلقان، فبعضها ألحق بيوغوسلافيا والبعض الآخر الحق بمقدونيا (سكوبيا عاصمة مقدونيا اسمها مشتق من كلمة SKIP الالبانية ومعناها الصفر) واعداد كبيرة منهم نقلوا الى تركيا، وحين صبروا على ذلك الالحاق الاجباري، وتكيفوا معه بمضي الوقت، فان الاخرين ـ خصوصا الصرب المقدونيين ـ لم يقبلوا بهم، وظلوا يعاملونهم كمواطنين من الدرجة الثانية، مع ما استصحبه ذلك من قهر سياسي وثقافي واجتماعي.

وهم في مقدونيا مثلا يعتبرون «اقلية قومية» ودستور بلدهم ينص صراحة على البلد للشعب المقدوني «من الجنس السلافي والديانة الاورثوذوكسية» والى جانب هذا الشعب فهناك «مواطنون آخرون» هم الالبان بالدرجة الاولى. وهؤلاء الآخرون ليسوا رقما تافها، ولكنهم يمثلون ما بين 35 و40 في المائة من مجموع السكان البالغ عددهم مليوني نسمة، ولان وزنهم السكاني كبير نسبيا، فان الاحصاءات الرسمية تحاول التقليل من عددهم باستمرار، فالاحصاء الذي تم عام 94 هبط بنسبتهم بصورة صغيرة الى 22.9 في المائة فقط، لذلك فما يطالب به الالبان هو ان يجري احصاء آخر تحت اشراف دولي، كي يكون محايدا قدر الامكان، لتحديد حجمهم الحقيقي، ومن ثم تحديد نصيبهم من المشاركة السياسية على نحو يعبر عن ذلك الحجم.

لم يكتف المقدونيون بتقليل عددهم فحسب بل لجأت اجهزة الادارة الى توزيع الدوائر الانتخابية بحيث يمثل كل عشرة آلاف وخمسمائة مقدوني شخص في المجلس التشريعي، بينما الالبان لهم وضع مختلف، فكل 15 الفا يمثلهم نائب واحد، وكانت نتيجة ذلك التطويق والحصار ان ممثلي الالبان لم يتجاوزوا 25 نائبا، من بين 120 نائبا يمثلون البرلمان المقدوني، الامر الذي اوصل نسبة تمثيلهم الى 20.8 في المائة فقط.

صحيح ان بعض الشخصيات الالبانية احتلت مناصب وزارية خلال السنوات العشر الاخيرة، الا ان ذلك كان يخفي استبعادا لهم واقصاء من مختلف المؤسسات الادنى، حيث لا تتجاوز نسبة الالبان، مثلا، 3 في المائة بين ضباط الجيش والشرطة والتمثيل الخارجي والفعاليات الاقتصادية.

على المستوى الثقافي، القهر شديد، فاللغة الالبانية غير معترف بها، واللسان المقدوني مفروض على الجميع، وعضو البرلمان الالباني لا يستطيع ان يتحدث بلغته، والمدارس تعلم لغة واحدة، وحين اراد الالبان ان يؤسسوا جامعة تعلم ابناءهم بلغتهم فان الحكومات المقدونية المتعاقبة رفضت ذلك المطلب، واذا اصر الالبان على ذلك، واسسوا جامعتهم في تيتوفيتش (مدينتهم الرئيسية وقد حملت الجامعة اسمها) فان الحكومة استخدمت وسائل التهديد وحاصرتها بوحدات الشرطة، لكنها لم تفلح في احباط مشروعها الذي مضى فيه الالبان رغم انف الحكومة.

ازاء ذلك، فان الالبان الذين عانوا كثيرا من الدونية في معاملتهم ظلوا طيلة السنوات التي مضت يلحون في معاملتهم، اسوة بغيرهم من المواطنين، مع احترام خصوصيتهم الثقافية، كشعب ينتمي الى جنس مختلف «الاليريين» والى دين مختلف، لكن موقف الحكومة الرافض لمطالبهم ظل ثابتا، ومدعوما بالدول المجاورة من يوغوسلافيا الى اليونان وبلغاريا، وهي الدول التي تشترك مع مقدونيا في العرق والدين، رغم انها على خلاف معها في امور كثيرة حدودية وسياسية، خصوصا من جانب اليونان، التي تحتفظ بمقاطعة باسم مقدونيا ضمن حدودها، وتشك في نيات مقدونيا الدولة المستقلة ازاءها. وتختفي هذه الخلافات وتتوحد الرؤى حين يتعلق الامر بالألبان المسلمين في مقدونيا، وليس سرا ان الكنيسة الاورثوذوكسية تلعب دورا هاما في ذلك التوحد الذي اشرنا اليه، وقد سبق لها ان ادت نفس الدور اثناء الصراع الصربي ـ البوسنوي.

مطالب الالبان المقدونيين اعلنوها على الملأ بطرق شتى وقالوا صراحة اننا لا نريد حربا ولا قتلا ولا نريد انفصالا، ولا حتى اتحادا فيدراليا، لكن كل ما نريده هو المساواة، بحيث يعترف بنا كمواطنين في الدولة المقدونية. هذا الكلام ردده ارين جعفيري زعيم الحزب الديمقراطي الالباني، وايمير ميري زعيم حزب الرفاه واربين كافري من الشخصيات الالبانية البارزة، جميعهم مع تحقيق المساواة بالطرق السلمية، ولهم خبراتهم التي رأوها رأي العين في كوسوفا والبوسنة، التي دلتهم على ان استمرار سكوت المسلمين وتمسكهم بتغيير اوضاعهم بالطرق السلمية، ستفهم من جانب الغرب بحسبانها استسلاما واستكانة، الامر الذي سيدفعهم الى الإمعان في ما هم عليه.

لقد ظل التجاهل والرفض سمتي الموقف المقدوني ازاء مطالب الالبان المسلمين، وهو ما مهد الطريق الى حدوث الانفجار قبل اسابيع قليلة، وقد تمثل الانفجار في تمرد بعض الشباب الالباني، واشتباكهم بالسلاح مع القوات المقدونية، التي قابلت التمرد بحملة قمع شديدة لمختلف القرى الالبانية. وحسب الاخبار المتوافرة، فان القمع استصحب امورا ثلاثة، فقد دفعت الحكومة المقدونية بقواتها واسلحتها الثقيلة وهاجمت بقسوة القرى الالبانية المحيطة بمدينة يكتوفو، فضلا عن المدينة ذاتها، وحسبما نقلت بعض الوكالات فان الالبان صادفوا في الحملة القمعية جنودا صربا وبلغارا ويونانيين.

في الوقت ذاته، انتهزت حكومة بلغراد الفرصة، ودفعت بقواتها لكي تحيط مرة اخرى باقليم كوسوفا، على أمل ان تستعيد سلطانها عليها مرة اخرى، وكانت القوات الدولية قد اقامت منطقة عازلة خلال العام الاخير ومنعت الصرب من الاقتراب من الاقليم، حتى لا تتكرر المآسي التي استدعت التدخل الدولي لوقف المذابح التي جرت هناك ومعروف ان مقدونيا تقع جنوب كوسوفا.

من ناحية اخرى، وقفت اوروبا وحلف الاطلنطي في احتشاد لافت للنظر الى جانب الحكومة المقدونية، ورفض مثلا الاتحاد الاوروبي والحلف أي حديث عن مطالب الالبان أو تطلعهم الى المساواة بغيرهم من المواطنين المقدونيين، وكل ما عنيا به هو وقف التمرد من جانب الالبان، وتوفير الدعم والتأييد لحكومة سكوبيا.

هذه المرة ـ وعلى العكس مما حدث اثناء ازمة كوسوفا ـ فان الالبان قدموا الى الرأي العام العالمي بحسبانهم جناة ومعتدين. اما المقدونيون، السلاف والأورثوذوكس، فقد اعتبروا ضحايا للتهديد الالباني، وهو امر ليس مستغربا، فاذا كان الاعلام الامريكي قد نجح في غسل أدمغة كثيرين هناك، واقناعهم بان الفلسطينيين يهددون الاسرائيليين اصحاب الارض، بمقاليع الحجارة التي يستخدمونها، الامر الذي يعطي اسرائيل الحق في ان تقصفهم بالطائرات والصواريخ، اذا كان ذلك قد حدث فلا غرابة في ان تقلب الصورة في مقدونيا، بحيث يصبح الالبان متطرفين وارهابيين وانفصاليين.... الخ.

واذ لا نفاجأ بذلك، فان ما يفاجئنا ويدهشنا ان بعض الصحف العربية رددت نفس المعزوفة، وزجت برقيات وكالات الانباء الغربية بنفس مفرداتها ومصطلحاتها وموقفها. اما الاغرب من ذلك فهو التعليقات التي حلل بعضهم بها الوضع في مقدونيا، منددا تارة بـ«المتطرفين الالبان» الذين نسب اليهم تطلعهم لاقامة «البانيا العظمى»، ومدعيا تارة اخرى بأن الالبان اصابهم الغرور بعدما «دللتهم» وزيرة الخارجية الامريكية السابقة مادلين اولبرايت «وتعاطفت» معهم (!) وقرأنا مقالة تحدثت عن «العناصر التدميرية» لدى الالبان، والخطر الذي تمثله على استقرار منطقة البلقان.. الخ.

مشكلة هؤلاء أنهم ـ في احسن الفروض ـ رصدوا لحظة الانفجار، الامر الذي غيب عنهم متابعة كل صفحات سجل المذلة والمهانة والمظلومية الذي عانى منه الالبان، منذ رضوا بالهم وتحولوا الى اقلية في مجتمعات يحكمها آخرون يبغضونهم ويرفضون ان يعترفوا لهم بحقوقهم كمواطنين، شأنهم شأن غيرهم من ابناء البلد.

لم يتبين هؤلاء العلاقة بين الفعل المقدوني ورد الفعل الالباني، فضاعفوا بذلك من الظلم الذي وقع على الالبان، الامر الذي شكل لدى القارئ العربي ادراكا مغلوطا للقضية، وحول التعاطف العربي والاسلامي المفترض الى خليط من الاستياء والحيرة.

من اسف ان تقارير بعض المراسلين العرب المقيمين في بلغراد الذين يتحركون في المنطقة ويغطون احداثها وقعت في المحظور ذاته، فتجاهلت الفعل المقدوني وانتقدت رد الفعل الالباني، وهذا مسلك لا نستطيع ان نفترض فيه حسن النية، خصوصا انهم قريبون من مسرح الاحداث ويعرفون جيدا مَنْ الظالم ومن المظلوم، ولكنهم اغمضوا اعينهم عن الحقيقة، حيث يعد ذلك ثمنا ربما ظنوا انه واجب الدفع، لكي يسمح لهم بالاستمرار في المنطقة والاحتفاظ بحقوق ـ وربما حظوظ ـ الاقامة فيها.

مثل ذلك التخليط والتشويش يدعوني الى اعادة طرح فكرة طالما دعوت اليها، خلاصتها ان يكون لدينا ـ في أي مؤسسة معنية باحوال الامة سواء كانت منظمة المؤتمر الاسلامي أو رابطة العالم الاسلامي أو غيرها ـ جهاز مهمته متابعة احوال المسلمين والاقليات الاسلامية بوجه اخص، واصدار تقييم لما يواجهون من نوازل بين الحين والآخر، يقوم به متخصصون لديهم العلم باحوال كل منطقة، فضلا عن «العين» القادرة على قراءة الاحداث بادراك وروح اسلامية، تنطلق من موقف الفهم والنصرة بنزاهة وموضوعية.

وتقييم من هذا القبيل يمكن تعميمه على الصحافة المحلية وعلى مواقع شبكة الانترنت لمساعدة الناس على فهم ما يجري من دون تضليل أو تهويل.

ادري انها مسؤولية جسيمة من حيث ان احزاننا كثيرة واعداءنا اكثر، لكن هذا قدرنا وينبغي ان ننهض بمسؤولياته اذا اردنا ان نعيش حياة حرة وكريمة بادراك سليم.