نداء المثقفين الجزائريين «ضد الخلط والانهزامية» صيحة طال انتظارها ..

TT

فاجأ ادباء وصحافيون وعلماء اجتماع وغيرهم من مثقفي المجتمع الجزائري قراء الصحف الدولية بدعوتهم زملاءهم المثقفين الجزائريين عبر العالم للتوقيع على عريضة «ضد الخلط والانهزامية» ترد على حملة النداءات الصادرة من باريس عن شريحة من نظرائهم الجزائريين والفرنسيين المتبنين للأطروحة المدعية بـ«تورط الجيش الجزائري في ارتكاب المجازر الجماعية». نداء أقول انه طال انتظاره.

فهذه أول مرة تقبل فيها أسماء لامعة في مجال الأدب والثقافة والعلوم مثل شخصية الكاتب القدير ذي السمعة العالمية محمد ديب، او الكاتب الناقد مصطفى الأشرف على جمع اصواتها تحت شعار وعريضة واحدة. واللافت في الأمر ان هذه الفئة من المثقفين (الموقعة على النداء) رغم عطاء البعض منها الغزير نسبيا خلال السنوات الماضية في تحليل الأزمة الجزائرية بعمقها الاجتماعي والنفسي والسياسي والتاريخي، لم تحاول ايصال صوتها ليخترق فضاءات دولية بقيت حكرا على اولئك المتبنين للتحليلات الساعية للاثارة والمجترة لتورط العسكر في مأساة البلاد، كأن النزاع الجزائري هو الوحيد في العالم، الذي يكتنفه الغموض ولا يعرف من يحركه ومن أثاره، كما هو الحال في اغلب النزاعات التي نشبت ولا تزال ملتهبة في البلقان او العراق او غيرهما.

ومع ذلك لا يبدو الإشكال الذي يحاول البعض جعله الدائرة التي تدور حولها الأحداث في الجزائر انشغالا رئيسيا او ثانويا للمواطنين داخل البلاد، لأن المراقب للشأن الجزائري ـ وذلك ليس فقط من وراء الحدود او من خلف المكاتب الدافئة، بل من خلال المعاينة الميدانية لمعاناة هؤلاء ـ لا يلمس شكا لديهم عن هوية من يقتلهم واختار تعبيد طريقه الى الحكم بتفجير بطون الحوامل والثكالى وشحذ سيفه فوق رقاب العجزة والاطفال. كما يجب الاعتراف بأن المسؤول الأول عن تردي صورة الجزائر في الخارج والتشكيك في دور مؤسساتها والهستيريا التي تلاحق عسكرها، هي سياسات الحكومات المتعاقبة التي سجلت فشلا ذريعا في صياغتها لاستراتيجية اعلامية شفافة، كانت مطالبة بفتح المجال امام الاعلام الدولي لأداء مهامه من عين المكان، وذلك مهما كانت المخاطر والصعوبات التي كان سيواجهها، من منطلق ان الصحافي مسؤول في نهاية المطاف قبل غيره على امن نفسه وسلامتها. ولذا أعود لأقول ان نداء المثقفين هذا وضع حدا للخجل والاعتكاف الذي طال جلهم لسنوات طويلة، نظرا لأن الكثيرين منهم لم يروا في النزاع الدائر في بلادهم الا مواجهة شرسة بين قطبين اثنين لا ثالث لهما، هما السلطة والاسلاميون المسلحون. اما النقطة الثانية، فتعود اساسا الى هوس المثقف الغيور والحريص على استقلاليته، من ان يتحول، نظرا لإعرابه عن رأيه، مادة لذوي العقول الضيقة للتشكيك في مصداقيته، خصوصا ان المنعرج الذي آلت اليه الأمور في الجزائر وسرعة انزلاق المجتمع نحو شبه حرب أهلية، كلها أمور لم يتوقعها أحد، فصعب على اي مثقف حكيم الاستعجال في اصدار الاحكام على الصراع او توقيع اي عريضة كانت، لا سيما انه يصعب اتهام كل الاسلاميين في البلاد بوقوفهم خلف ما جرى، لان هذا ايضا يعتبر تبسيطا للأزمة.

لكن قول هذا، فانني شخصيا أشاطر مبادرتهم للدعوة للتفكير والوقوف في وجه كافة التطرفات والاحكام المطلقة التي تصدر من اي جهة ضد اخرى سواء كانت هذه موجودة في المؤسسة العسكرية الجزائرية او في جامعات باريس او غيرهما، لأنه رغم قلة عدد المتبنين من المثقفين لأطروحة «تورط الجيش»، فإنهم من خيرة ما أنجبت الجزائر من «عقول مفكرة»، ولذا من حقهم رفع التساؤلات التي يرونها مناسبة في سياق ما لديهم من معطيات ومعلومات، من منطلق ان تاريخ المرحلة الحالية يجب ان يكتب بصالحه وطالحه، وليس كما جرى مع حرب التحرير التي رجعت اشباحها لتهديد حاضر البلاد مستقبلها.

بيد انهم من جهة ثانية، ليس من حقهم، كما لاحظته شخصيا في كتاباتهم وتدخلاتهم المستمرة في وسائل الاعلام المختلفة التي اصبح هذا الخطاب مادتها وموضوع اثارتها، عدم انصاف التحليل للوضع وعزوه فقط للجيش بصفة متجانسة ومطلقة مثيرة للجدل والقلق، علما ان الاتهام شيء ومناقشة الطرح شيء ثان واثباته بأدلة قاطعة شيء آخر. كما ان ابادة سكان الارياف التي ما تزال مستمرة ولم تتوقف يوما منذ سنوات وفاق عدد الضحايا فيها 100 الف قتيل، تجعلنا نتساءل، كيف بامكان هؤلاء وغيرهم تجاهل الجرائم التي يرتكبها ويعترف الإسلامي المسلح بها ويتباهى باضافتها الى رصيده في «محاربة الطغمة»، على حد التعبيرات المستخدمة في بياناتهم، ليأتي المثقف ويحاول تبرئته من دم ضحاياه، بدل العكس، التنديد بالصوت والقلم والحبر بالاصولية الاسلامية التي تفتك وتزهق ارواح الناس باسم الدين، الذي لو نطق لتبرأ منها، راهنة مستقبل الملايين من الناس.

أضف الى ذلك، عن اي جيش نتحدث؟، اذ المتتبع للنقاش الدائر حول «من يقتل من؟» يكاد يخيل له ان الجيش الجزائري «تنظيم عسكري» أجنبي استوردته الجزائر للدفاع عن دولتها ببعدها الجغرافي والمؤسساتي، لا ارتباط له بأرضها ولا بشعبها، متجاهلين تركيبته الشابة وافتقاره عموما الى الخبرة اللازمة في التعامل مع حالة العصيان التي يواجهها. وللعلم فان 80 في المائة من قوات الجيش هي من شباب الخدمة الوطنية، الذين اذا سنحت الفرصة لأي كان ان يتحدث اليهم عند انتهاء فترة خدمتهم، فسيستمع الى قصص مضحكة وأخرى مبكية عن «لقاءاتهم» في رؤوس الجبال بفرق الموت التابعة للجماعات الاسلامية المسلحة، مما يعتبر مؤشرا على الطريقة التقليدية التي تواجه بها البلاد ما يزعزع استقرارها ويهدده. ولولا المفاهيم المغلوطة حول حقوق الانسان بين الشمال والجنوب، لكان بالامكان ان تزود الجزائر نفسها بالتكنولوجيا العسكرية اللازمة لادارة ازمتها والتقصير من مدتها، كما تفعل جيوش الدول المتطورة التي تفتخر بـ«العمليات الجراحية» لدى هجومها على أي دولة في العالم متى تشاء. وعودة الى أمر المثقفين الجزائريين فان التباين في مواقفهم لم يتبلور بالشكل الذي هو عليه اليوم، الا بعد تحول الجماعات الاسلامية المسلحة الى تصعيد عملياتها من السيارات المفخخة الى الابادة الجماعية للمستضعفين في القرى والارياف بعد منتصف التسعينات، اذ انه قبل هذا التاريخ كان الجميع ينددون بالفاشية الاصولية التي استهدفت المثقفين والصحافيين قبل غيرهم من ممثلي المجتمع المدني. ولذا، يجب الاعتراف بشيء للاصولية المسلحة في الجزائر بأنها نجحت الى حد ما في زرع الشك والبلبلة في صفوف المثقفين لجلبهم الى ايجاد اسباب مخففة لهمجيتها.

وأخيرا ما يمكن اضافته أن مثل هذه العريضة التي تسعى لجمع أكبر عدد من التوقيعات مفيدة الى حد ما لأنها بمثابة صبغ للآراء. لكن يجب عدم الاكتفاء باصدارها فقط، بل ينبغي ان تكون خطوة تمهد لالتفاف المثقفين الذين يؤمنون بنفس الغـــاية لتشكيل تجمعاتهم وتأســـيس قطبهم لاسماع صوتهم «كقوة ثالثة»، فهذا فقط هو الذي سيسمح غدا بظهور المجتمع المدني الذي يفكر لنفسه مهما اختلفت الآراء بين شرائحه.

[email protected]