الحل الإيجابي لأزمة الطائرة سيضع أساسا جديدا لعلاقات واشنطن وبكين

TT

أثناء اعداد هذا المقال كانت المفاوضات بين المسؤولين الاميركيين والصينيين تسير نحو قمتها. وتتمثل العقبة الرسمية في ما اذا كانت الصين ستواصل مطالبتها باعتذار اميركا ام انها ستكتفي بالتعبير عن الاسف من قبل وزير الخارجية كولن باول ومن الرئيس جورج دبليو بوش. وإذا حكمنا بالاشارات الصادرة من الجانبين فان ايا منهما لا يرغب في مواجهة مطولة. فالتصريحات الصينية تهدف الى ابراز ما تدعوه القيادة الصينية (موقفها المبدئي) امام شعبها. ولكن هذه الخطابة الحماسية لا تغلق الباب امام اتفاق نهائي يحترم وجهة النظر الاميركية بان ما حدث كان من قبيل المصادفات السيئة وليس الاستفزاز المقصود. وما دام اساس النزاع هو ما اذا كانت الطائرة الاميركية تحلق فوق الاراضي الصينية، واي الطائرتين قامت بالانحراف الذي سبب الاصطدام، فان الحل الملائم هو اطلاق سراح الطاقم، واصدار بيان مشترك يطرح وجهتي النظر حول الوقائع ويؤسس لآلية لتقصي الحقائق.

مثل هذا الحل سيكون على غرار اعلان شنغهاي الذي أسس لاعادة الاتصالات الدبلوماسية بعد انقطاع دام اكثر من 20 سنة. ففي ذلك الاعلان طرحت الولايات المتحدة والصين آراء متناقضة حول سلسلة كاملة من القضايا ولكنهما اتفقتا على بعض المبادئ. من بين تلك المبادئ مقاومة نزعات الهيمنة ـ وهي عبارة قصد بها نزعات التوسع الروسية ـ ومنها كذلك ان الولايات المتحدة اقرت بأنها لا تعترض على اراء الصينيين على جانبي المضيق بأن الصين بلد واحد.

ان مثل هذه النتيجة ممكنة بالطبع لأن قادة بكين يعلمون تماما ان هناك نقطة ما ـ وهي ليست بعيدة على كل حال ـ سينظر فيها الرأي العام الاميركي الى طاقم الطائرة المعتقل «كرهائن». وعند تلك النقطة ستتحول القضية الى مواجهة تؤدي الى تخريب العلاقات الثنائية بصرف النظر عن الطريقة التي ستحسم بها. كما ان التناول البارع من قبل ادارة بوش لهذه الازمة اعطى معنى محددا لما تسميه «العلاقة التنافسية» بادخال عامل التعاون ضمن ذلك المفهوم.

ولأن حادثة طائرة الاستطلاع يمكن ان تؤدي الى حوار ممتد، فانه من المهم تفهم الفجوة الثقافية الموجودة بين الجانبين لتحديد منهج التناول الدبلوماسي. ان القادة الاميركيين نشأوا في مجتمع يعتبر السلام والتقدم ظواهر عادية. ومن هنا فهم يركزون على حسن النيات الفردية وعلى العلاقات الشخصية كعوامل هامة في حسم النزاعات الدولية.

أما الصين فقد تعلمت من تاريخها الممتد لخمسة آلاف سنة، والذي شهد الثورات والمآسي، ان الارادة الشخصية للافراد لا يمكن التعويل عليها كثيرا لأن الافراد عابرون في نهاية المطاف. وقد استطاعت الولايات المتحدة ان تتغلب على تحدياتها بمزيج من المثالية والعزيمة والتنظيم والجغرافيا المواتية. ومع ان للصين انجازات عظيمة متعددة، الا انها وصلت الى اقصى طاقتها ووجدت نفسها امام نوع من التحديات لا يمكن مواجهته الا بقدر غير محدود من الصبر والتحمل. وبينما تقترب الصين من القضايا السياسية بشك وحذر، تتخذ اميركا سيماء التفاؤل والروح الرسالية. هناك ايضا الاحساس بالزمن، فهو في الصين مختلف كليا عنه عند الاميركيين. عندما يُسأل الاميركي عن تاريخ واقعة معينة فانه يشير الى يوم محدد من الشهر والعام، اما اذا اراد الصيني ان يتحدث عن تاريخه فانه يدرجه ضمن تاريخ اسرة حاكمة. وإذا رجعنا الى الاسر الامبراطورية الحاكمة الاربع عشرة، فان تاريخ اي منها اطول من تاريخ الولايات المتحدة كلها.

ويفكر الاميركيون في حلول محددة لقضايا محددة. بينما يفكر الصينيون في عملية متواصلة ليست لها نهاية محددة. والاميركيون يعتقدون ان النزاعات الدولية تنشأ اما بسبب سوء التفاهم او النيات السيئة، وفي الحالة الاولى يكون الحل هو الاقناع، الذي غالبا ما يكون ملحاحا، ويكون الحل في الحالة الثانية تدمير الفاعل الشرير. اما المنهج الصيني فهو غير شخصي، وصبور ومتعال.

وبينما تنظر واشنطن الى قوة الايمان وحسن النيات كلحمة للعلاقات الدولية، تفترض بكين ان على السياسيين ان يفهموا الاشارات غير المباشرة. وهذا هو السبب في ان الصينيين، في هذا النزاع، لم يقولوا ان الاميركيين «يجب» ان يعتذروا، بل قالوا ان «واجبهم» ان يعتذروا، اي ان الاوضاع «تقتضي» اعتذارهم. فهم لا يضعون شرطا بل يعبرون عن رغبة. بالنسبة للاميركيين، ينطوي القادة الصينيون على تهذيب واضح، ولكنهم متعالون، مصعرون للخدود. اما بالنسبة للصينيين فيبدو الاميركيون انفعاليين ولا يخلون من طيش.

تكتيكات التفاوض الصينية تعكس، هي الاخرى، التجربة التاريخية الصينية، اذ تحولت الصين في القرون الثلاثة الاخيرة من قوة مهيمنة على اقليمها الى دولة مهانة ومستعمرة. ولذلك تسفر الدبلوماسية الصنية عن اسلوبين. فالدبلوماسيون الصينيون يمكن ان ينالوا الحظوة عندما يتصرفون كورثة للمملكة الوسطى في بلدهم. اما الطرف الآخر فيتم الانعام عليه بادخاله في «النادي» الصيني «كصديق قديم»، مما يجعل الخلاف اكثر تعقيدا من الناحية الانسانية. في هذا الاطار يناور الصينيون ليحملوا مفاوضيهم على تقديم رغباتهم هم كطلبات من الطرف الآخر! وحينها يوافقون على الطلب كنوع من المعروف. وهكذا في زيارتي السرية للصين عام 1971، حاول شوان لاي، رئيس الوزراء آنذاك، ان يضعني في موقع من يطلب دعوة الرئيس نيكسون لزيارة الصين. واتفقنا اخيرا على اشارة لرغبة نيكسون لزيارة الصين قبل ان ينتخب رئيسا للولايات المتحدة، واضفنا اليها دعوة صريحة له من القادة الصينيين.

ولكن عندما تواجَه بما يعتبر ارثا استعماريا، فان الصين تصبح أكثر ميلا للاضطهاد لإظهار صلابتها أمام الضغوط. ان أي تلميح إزاء عدم اخذ سلامة الصين ووحدة أراضيها بصورة جادة يسفر عن ردود أفعال قوية تعتبر بالنسبة للجانب الأميركي زائدة عن الضروري. يظهر ذلك في مظاهرات الغضب المستمرة احتجاجا على قصف السفارة الصينية في بلغراد والتشدد في بداية الأمر حول قضية طائرة الاستطلاع. لذلك، فإن الأساليب الدبلوماسية المتعارضة أسفرت عن أجواء مواجهة في المراحل الأولى من الأزمة الأخيرة. وكان رد واشنطن ان الطائرة الموجودة في مطار عسكري صيني محمية بموجب الحصانة ومطلوب إعادتها بأسرع فرصة. ومهما كانت الأوضاع القانونية، فان وضع الحصانة القانوني الخاص بطائرة الاستطلاع كان سيثير ردود أفعال صينية قوية. ولذا، بمجرد دفع كولن باول والرئيس بوش للقضية إلى المستوى الإنساني وبدء التحدث عن الحل العملي أصبح الطريق مفتوحا أمام نتيجة بناءة وإيجابية.

وعندما يصل الطرفان إلى هذه النتيجة، فان الأزمة ستكون سببا في إرساء قواعد جديدة وناضجة ومستقرة للعلاقة بينهما. وبسبب الصعوبة التي يعانيها كل طرف في فهم ثقافة الطرف الآخر، فانهما فشلا في معظم الأحيان في تأسيس علاقة مستقرة على مدى فترة ممتدة. لقد تأثر النهج الأميركي تجاه الصين خلال مطلع القرن الماضي بالإرساليات والتجار، إذ لم يدرك هؤلاء الاضطهاد الذي شعر به المجتمع الصيني عندما تعرض للضغوط الاستعمارية للقوى الغربية. وخلال حقبة الثلاثينات من القرن الماضي، ثم الحرب العالمية الثانية، ظهرت الصين كضحية للعدوان الياباني وكحليف ديمقراطي بطل. اما عقب الانتصار الشيوعي في الحرب الأهلية فتحولت الصين في العقلية العامة الأميركية إلى تجسيد للعداء الأيديولوجي والاستراتيجي. فالأيديولوجية العسكرية الماوية، والتدخل الصيني في الحرب الكورية، وكره الولايات المتحدة للمؤسسات الصينية المحلية، ووضع الأسطول الأميركي السابع في مضيق تايوان، أفرزت مجتمعة فترة ربع قرن تقريبا من التوتر وانعدام العلاقات الدبلوماسية وأي اتصال من أي نوع بين البلدين ما عدا التوبيخ المتبادل بين الجانبين.

بيد ان الصين والولايات المتحدة تعيشان الآن في ظل حقبة مختلفة تماما تتطلب الاستقرار لأسباب استراتيجية واقتصادية بعيدة المدى. ويجب ان نلحظ هنا ان الواقع الصيني يتسم بالتعقيد، فالقادة الصينيون الذين تعاملنا معهم خلال حقبة السبعينات كانوا في مسلكهم أكثر ميلا إلى زمن المملكة الوسطى، مقارنة بالقادة الحاليين الذين يديرون دولة شُكِل اقتصادها بواسطة السوق والتكنولوجيا الحديثة. وتواجه الصين عددا من المشاكل البعيدة المدى: أولا، تتطلب النجاحات الاقتصادية تكيفا سياسيا مستمرا. ثانيا، من المفترض ان يغادر معظم القادة الحاليين مواقعهم بنهاية عام 2003، إذ سيكون ذلك بمثابة أول تغيير دستوري في دولة شيوعية. ثالثا، جيش التحرير الشعبي، الذي من المفترض ان يلعب دورا رئيسيا في النقاش حول مستقبل البلاد، أكثر قومية من بقية القادة الصينيين.

اما بالنسبة للولايات المتحدة، فهناك مدرستان تهيمنان على الحوار والنقاش الحاليين. هناك رؤية إدارة الرئيس السابق بيل كلينتون الخاصة بـ«المشاركة» و«الشراكة الاستراتيجية»، والتي تستند الى اعتقاد بان العالم الذي يتكون من ديمقراطيات لا يجمع أعداء، بل تسود فيه علاقات التعاون والتبادل التجاري والاهتمام المشترك بالبيئة والعلوم والتكنولوجيا، ومن ثم فان عالما كهذا من شأنه ان يشهد تعزيز مواقع القوى المؤيدة للتعاون الدولي والتعددية المحلية.

اما وجهة النظر الأخرى فتعتبر الصين عدوا حتميا، خصوصا عند النظر إلى مسألة تايوان، ومنطقة غرب المحيط الهادي، وعامل الزمن في التوازن الدولي. وطبقا لهذه المدرسة، فان الولايات المتحدة يجب ألا ان تتعامل مع الصين على اعتبار انها شريك استراتيجي، بل وفق النهج الذي تعاملت به من قبل مع الاتحاد السوفياتي خلال حقبة الحرب الباردة. هذا النهج يقوم على ركائز أساسية، من ضمنها حصر التجارة في المواد غير الاستراتيجية فقط، وتكوين تحالف من الدول الآسيوية لمساعدة الولايات المتحدة على المساهمة في عبء الدفاع عن آسيا واحتواء الصين. أنصار وجهة النظر هذه سيتعاملون مع تايوان كدولة مستقلة ونقطة عسكرية وسيتخلصون عمليا من سياسة التعامل مع «صين واحدة» وهو الأساس الذي قامت عليه العلاقات بين واشنطن وبكين من مطلع حقبة سبعينات القرن الماضي.

ان السؤال الأساسي الذي يواجه الرئيس الحالي جورج بوش يتلخص في ما إذا كان أي من المنهجين السابقين يتفق وحاجات الولايات المتحدة. رفض نظام الشراكة الاستراتيجية الذي ثبت عدم جدواه شيء، وتبني سياسة الاحتواء التي انتُهجت خلال الحرب الباردة السابقة إزاء الاتحاد السوفياتي السابق شيء آخر تماما. ان هذه السياسة ستؤدي إلى عزل الولايات المتحدة في آسيا، بل وفي العالم. بالطبع، ستقاوم الولايات المتحدة أية محاولات تقوم بها أي قوة أخرى بغرض الهيمنة. ولذا يتلخص التحدي في التوصل إلى سياسة مفتوحة أمام التعاون لكنها في الوقت نفسه حاسمة تجاه أية محاولات للعدوان. ان اية مواجهة اميركية مع الصين يجب ان تكون خيارا أخيرا وليس استراتيجيا. وما يمكن قوله هنا هو ان تعامل إدارة بوش مع أزمة طائرة الاستطلاع خطوة إيجابية في هذا الاتجاه.

*وزير الخارجية الأميركية الأسبق ومهندس الانفتاح الاميركي على الصين خلال ادارة الرئيس ريتشارد نيكسون ـ خدمة «لوس أنجليس تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»