جناية (التكفير) على الإسلام والمسلمين

TT

من مقاصد الاسلام العظمى، ومن عزائمه المتجددة التي لا تنقطع ولا تركد: إدخال الناس فيه، لا إخراجهم منه، إذ الاسلام منهج (جذب) لا منهج (طرد). وهما منهجان نقيضان لا يلتقيان. فمنهج الجذب يقضي بالدخول في دائرة الايمان، في حين يقضي منهج الطرد بالدفع الى دائرة الكفران. وليس يلتقي ايمان وكفران.

من هنا، فإن أعظم حبور، وأجمل فرحة: الفرحة بدخول الناس في الاسلام.

بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليا بن أبي طالب فاتحا فقال عليٌّ: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال النبي: «انفذ على رسلك واخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من ان يكون لك حمر النعم».. وقد قال الحافظ بن حجر ـ في شرح هذا الحديث ـ : «يؤخذ منه ان تآلف الكافر حتى يسلم اولى من قتله». ولذا لحظ البخاري المعنى العميق اللطيف للحديث فاختار له عنوانا دقيقا مناسبا ـ في موضع آخر وهو (باب فضل من أسلم على يديه رجل).. والدلالة المبتغاة ـ ها هنا ـ هي : أن الفرحة بهداية إنسان إلى الإسلام: امتع وأروح وأعظم وأندى من مباهج الدنيا جميعا.. ويعضد هذا المعنى: مفهوم الامر بالتسبيح في سورة النصر: «اذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً».. فمن مفاهيم هذا الامر بالتسبيح ـ عند دخول الناس افواجاً في دين الاسلام ـ : ان المسلم يمتلئ غبطة وحبورا حين يدخل الناس في الاسلام، وان الشعور بالغبطة يقتضي الشكر لله، وان التسبيح شكر من الشكر.

ومما يدخل في هذا الباب: ان المسلم قد يكبو ويخطئ. وهنا تأتي فرحة أخرى بتوبة المسلم من الخطأ. ان الله جل ثناؤه يفرح بتوبة الإنسان. ولنقرأ ـ بعقل مفتوح ووعي حاضر ـ هذا الحديث النبوي: «لَلَّهُ أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها (يئس من العثور عليها) فأتى شجرة فاضطجع في ظلها فبينما هو كذلك اذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح: اللهم انت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح».

ومنهج الفرح بالدخول في الاسلام، وبعودة الانسان الى الله بعد كبوة، انما هو منهج نقيض لنزوع الذين يسارعون الى اخراج الناس من الاسلام، والى تكثيرهم، وإلى إهدار دمهم ـ من ثم ـ بشبهة ما أو بلا برهان مبين.

الدعوة الصحيحة الحقة: ادخال الناس في الاسلام، لا اخراجهم منه. فإذا سارع امرؤ ما الى تكفير مسلم بغير حق، لم يكن من الداعين الى الله على بصيرة. بل هناك ما هو أخطر وأخوف من ذلك، إذ المتسرع بالتكفير يخشى عليه من المصير نفسه، كجزاء من جنس العمل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله، وليس كذلك إلا حارت عليه»، اي رجعت عليه دعواه التي ادعاها ضد الآخر.

نعم. يخطئ المسلم.. ولكن لماذا تضيق دائرة الأوصاف حتى لا يبقى إلا وصف الكفر وحده؟.. لماذا القفز إلى الاغتيال المعنوي الكامل. فوصف المسلم بالكفر، ليس مجرد قذف أو سب عاديين، بل هو اغتيال معنوي ينقل المسلم من دائرة الاسلام التي يريدها، الى دائرة الكفر التي يكرهها.. وهذا الظلم دونه أي ظلم آخر.. حقيقة لماذا الاصرار على التكفير في حين ان هناك اوصافا أخرى كثيرة: وصف المخطئ.. ووصف المذنب.. ووصف الآثم.. ووصف العاصي. على أن هذه الأوصاف ذاتها مشروطة بتلبس المسلم بها وفق المعيار الشرعي الدقيق العادل.. وقد تكون هذه النقطة مناسبة لايراد مثل قريب من السياق، وهو مثل: المسارعة الى (التحريم) بالظن أو بلا دليل قاطع من الكتاب والسنة، بينما هناك دوائر أو أو مساحات أخرى غير التحريم.. قال ابن وهب ـ كما جاء في اعلام الموقعين لابن القيم ـ : «سمعت مالكا يقول: لم يكن من امر الناس، ولا من مضى من سلفنا، ولا ادركت أحداً أُقتِدي به يقول في شيء هذا حلال، وهذا حرام. وما كانوا يجترئون على ذلك. وانما كانوا يقولون: نكره كذا.. ونرى هذا حسنا.. فينبغي هذا.. ولا نرى هذا».

ثم ان الفرحة بدخول الناس في الاسلام، وببقائهم في دائرته ـ بداهة ـ معللة بحب الخير والسعادة والهناءة والراحة والنور للبشرية: «الَر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد». وبهذا المفهوم يدعى الناس الى الاسلام ابتداء، ويثبّتون عليه تبعا ودوما.. وفي ضوء هذا المفهوم: انبعث حملة الخير والرحمة والنور، وانطلقوا من جزيرة العرب يدخلون الناس في الاسلام بالحجة والاقناع والحسنى، وبمحبة الخير لهم.

واخراج الناس من الظلمات الى النور منهج لا يسمح قط باخراج الناس من النور الى الظلمات، ذلك ان المقصد الثاني نقض وفسخ للمقصد الأول.

ومنهج الاسلام متناغم متناسق يعضد بعضه بعضا. فهذا المنهج الحريص على ادخال الناس في الاسلام، نقض كل نزعة وكل اتجاه يرمي الى تكفير المسلمين.

وهذه منظومة من البراهين الساطعة:

1 ـ ان الكفر أبغض شيء الى المسلم: «وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان».. ومن دلائل الايمان وعلاماته: أن المسلم يكره أن يعود الى الكفر كما يكره ان يقذف في النار كما جاء في الحديث النبوي. فلا يكره المسلم ـ من ثم ـ على ما يكره.. وكيف يقذف في نار قد تحاشاها، وفر منها فرارا؟.. ولا شك ان التكفير بلا حق، وبلا منهج صحيح، وبلا برهان مبين انما هو نوع من الاكراه على (الكفر).

2 ـ «يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا ان الله كان بما تعملون خبيراً» وسبب نزول هذه الآية: أن رجلا من بني سليم يرعى غنما له مر بنفر من اصحاب النبي فسلم عليهم فقالوا: لا يسلم علينا الا ليتعوذ منا فعمدوا اليه فقتلوه، فنزلت الآية بالكف عن التأويل في التكفير.

3 ـ قال أسامة بن زيد: لحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا من جهينة، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله، فكفى عنه الانصاري، وطعنته برمحي حتى قتلته. فلما قدمنا المدينة بلغ ذلك النبي فقال لي: يا أسامة قتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ فكيف تصنع بلا اله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة. قال أسامة: فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم».

بموجب هذا المنهج، وبمقتضاه، وفي هداه: تجافى أئمة الإسلام الثقات وتطهروا من نزعة المسارعة الى (التكفير).

في وضوح مثل السنا، وبعبارة علمية محررة بدقة، وبأمانة عظيمة، وبحرص فائق على بقاء المسلم في دائرة الاسلام، قال الامام احمد بن حنبل: «ولا يكفر احد من اهل التوحيد وان عملوا بالكبائر. ومن مات من اهل القبلة موحدا نصلي عليه ونستغفر له، ولا نحجب عنه الاستغفار، ولا نترك الصلاة عليه لذنب اذنبه صغيرا كان او كبيرا. أمره الى الله عز وجل ولا نشهد على احد من اهل القبلة بعمل عمله بجنة ولا نار. نرجو للصالح، ونخاف على المسيء المذنب ونرجو له رحمة الله. ومن لقي الله بذنب تجب له به النار تائبا غير مصر عليه، فإن الله يتوب عليه، ويقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات».. ويرد الامام مزاعم الذين يكفرون مرتكب الكبيرة ردا قويا قاطعا فيقول: «من زعم انه كافر فقد زعم أن آدم كافر، وان اخوة يوسف حين كذبوا اباهم كفار».

ويقول ابن تيمية ـ في غير موضع من الفتاوى ـ : «وليس لأحد ان يكفّر احدا من المسلمين وإن اخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة. ومن ثبت اسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد اقامة الحجة، وازالة الشبهة.. ويقول علماء السلف في المقدمات الاقتصادية: لا نكفر أحداً من اهل القبلة بذنب، ولا نخرجه من الاسلام بعمل. وقد ثبت الزنى والسرقة وشرب الخمر على أناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. بل جلد هذا، وقطع هذا، وهو في ذلك يستغفر لهم ويقول: لا تكونوا اعوان الشيطان على أخيكم، وأحكام الإسلام كلها مرتبة على هذا الأصل... ومن شأن اهل البدع أنهم يبتدعون أقوالا يجعلونها واجبة في الدين، بل يجعلونها من الايمان الذي لا بد منه، ويكفرون من خالفهم فيها، ويستحلون دمه. واهل السنة لا يبتدعون قولا، ولا يكفرون من اجتهد فأخطأ.

لماذا هذا النهج الصارم في الكف عن تكفير المسلم؟

أ ـ لأن التكفير افتراء على الله ورسوله، وظلم بواح لمن يراد تكفيره.

ب ـ لأن التكفير (فتنة) للناس في دينهم.

ج ـ لأن التكفير (تقنيط) للناس من رحمة الله، بل تشجيع لهم على الكفر الحقيقي، بمعنى ان الذي تصدر ضده فتوى بالتكفير. قد يؤزه الشيطان ويقول له: ما داموا كفروك فكن كافرا حقيقيا!!. وربما زيّن له ذلك بمقولة: «أنا الغريق فما خوفي من البلل).

د ـ لأن التكفير اهدار للدم المعصوم.. ومن مقاصد الاسلام: صيانة (النفوس) من هدر دمها.

هـ ـ لأنه يترتب على التكفير: إبطال قواعد الزواج والتوارث والترحم على موتى المسلمين الخ.

وفي تمام المقال: ندعو علماء الاسلام الى الجد في (احياء منهج اهل السنة والجماعة) في مجال حراسة عقائد الناس وايمانهم واسلامهم من بدعة التكفير : «إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير».