مرزبان الثقلاء

TT

ما نعرف في القدماء من الف عن الثقلاء قبل ابن المرزبان والجاحظ، غير ابي العنبس الصيمري. وهذا الكاتب الساخر قصة وحده، ففي الوقت الذي تقاتل فيه الكتاب على الموضوعات الغليظة، والقضايا الثقيلة انفرد هو بكتابة كتب على وزن «فضل السلم على الدرجة» و«شكوى الجمل الى ربه» و«تأخير المعرفة»، وكلها سخرية مرة من زمن يحط قدر النبلاء والاذكياء ويرفع الاسافل والتافهين والجهلة والانذال.

ومع صدور طبعة جديدة من كتاب ابن المرزبان «ذم الثقلاء» عن «دار الجمل» (الذي لا يشكو) من المانيا لا نستطيع الا ان نلاحظ بعد الثناء على التحقيق الدقيق للدكتور محمد حسين الاعرجي ان محمد بن المرزبان يمكن ان يصنف بين الثقلاء بسهولة، رغم انه حاول ان يعاديهم، فكتابه والحق يقال مجموعة اخبار ليس فيها من الطرافة الشيء الكثير، وهي الى الثقل منها الى الطرافة اقرب.

والسبب كما نظن ان ابن المرزبان كان مقلدا غير مجدد، فقد حاول في كتابه هذا ان يقلد الصيمري وحاول في بعض كتبه الاخرى كـ«فضل السودان على البيضان» ان يقلد الجاحظ وظل في الحالتين دون الاثنين، فالبون شاسع بين كتابة تصدر عن روح مرحة تحب الفكاهة، وكتابة يسحبها صاحبها من روحه كما يسحب الغلام الصغير الدلو الكبير من بئر عميقة.

وعندنا كدليل على ثقل روح مرزبان الثقلاء كتاب آخر هو «تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب»، فهو في هذا الموضوع الطريف ايضا ثور الله في برسيمه ينقل ما يقع تحت يده، ولا تجد لروحه اثرا في الربط، ناهيك عن التحليل وفرش بساط الكلام.

وبعد هذه الخلفيات يظل لابن المرزبان فضل حفظ بعض الروايات التي لا تجدها في كتب اخرى كحفظه لتفسير الفراء للمثل العربي «فلان اثقل من الزواقي»، فقد كان اللغويون لا يعرفون اصل هذا المثل الى ان جاء اعرابي للغوي الاشهر، وقال له ان العرب كانت تحب ان تسهر وتسمر الى الصباح، فاذا جهجه الفجر صاحت الديكة فاستثقلوها، والظاهر ان الوضع لم يتغير عند بني يعرب، فالذين يخرجون من الكباريهات مطلع النهار يكادون يوازون عدد الذين يذهبون في التوقيت ذاته الى اعمالهم.

ومن آيات تكرار ابن المرزبان لقصص تجدها في كل مكان تركيزه على اصحاب اللحى الضخمة المبالغ فيها التي تختلف عن اللحى التقليدية المشذبة المعطرة التي تحظى بالعناية ولا تذهب في كل الاتجاهات كالحدائق المتوحشة، ومن الصنف الثاني كانت لحية ثقيل اسمه رباح قال عنه مروان الشاعر:

لقد كانت مجالسنا وساعا فضيقها بلحيته رباح مبعثلة الأسافل والأعالي لها في كل زاوية جناح والابيات من الوافر لتناسب وفرة تلك اللحية الكثة، اما «مبعثلة» فأصلها مبعثرة وكانت العرب تبدل الراء في بعض الاحيان لاما وتقول عن النثر «نثلا» كما يخبرنا المحقق الذي بذل جهدا واضحا في اللغة والتعريف بالشخصيات، لكنه لم يعرفنا على صاحب اللحية الثاني الذي جاء الى الشعبي وسأله عن احكام المسح على اللحية، فقال خللها، فقال صاحب اللحية المهولة الذي لا نعرف له اسما: أتخوف ألا يبلغها الماء، فقال الشعبي وكان حسن النكتة: فإن تخوفت فلا بأس ان تنقعها من اول الليل.

وفي تعريفات الثقلاء وطرق التعامل معهم عند ابن المرزبان نجد تراثا طويلا يعود الى عمر بن الخطاب وابي هريرة رضي الله عنهما، فالخليفة الثاني قال محذرا: من أمن الثقل، فهو ثقيل، بينما كان ابو هريرة يكتفي بالدعاء للثقيل ولضحاياه قائلا: اللهم اغفر له وارحنا منه.

وفي مرحلة من مراحل تطور الذوق العربي صارت الوقيعة بالثقلاء احدى متع الدنيا، وهي متعة قوم لم يبق عندهم الكثير ليتمتعوا به من شدة التزمت والتضييق، اذ يؤثر على احد رجال القرن المرح وهو القرن الثالث الهجري قوله: ما بقي من لذات الدنيا الا ثلاث: محادثة الاخوان، وأكل القديد، وحك الجرب، وازيدكم واحدة هي الوقيعة بالثقلاء ثم تمثل بقول الشاعر:

ليتني كنت ساعة ملك الموت فافني الثقال حتى يبيدوا وعلى هذا المنوال يمضي الكتاب بالمكرور والثقيل من الاخبار، فيكرر عدة مرات قصة بشار، وينسبها احيانا له، واخرى الى الاعمش، اذ كان بشار بن برد يشكر الله على العمى لانه اراحه من رؤية الثقلاء، ولا شك ان ابن المرزبان كان يريد الا يكون كتابه عن الثقلاء ثقيلا، لكن الامر خرج من يده وقلمه، فالكتابة مرآة الروح، وما كل يوم يخرج عند العرب كاتب كالجاحظ يكتب عن البخلاء والثقلاء بطريقة تضحك الثكالى.

ونتيجة لغياب الروح الجاحظية او ما يماثلها ويوازيها ظل ابن المرزبان ثقيلا بين ثقلاء وظن انه يخرج نفسه منهم بالكتابة عنهم، فخانه الظن، ولم تسعفه القريحة، وظل له من المجد شرف المحاولة التي حفظت بعض الاخبار المتناثرة عن قوم يمسكون الارض كي لا تميد بالبشر في عصور تثقل فيها الارواح والدماء وتصبح الخفة صفة لا تطلق الا على العقول.