في انتظار اتحاد علماء المسلمين

TT

لا حل لمشكلة فوضى الافتاء في العالم الاسلامي الا بالاتفاق على مرجعية تعبر عن الرؤية الرشيدة لمختلف المسائل التي تجد في حياة المسلمين أو تستشكل عليهم. هذا ما خلصت اليه في مقالة الأسبوع الماضي التي تحدثت عن بعض مظاهر فوضى الافتاء، بدءاً من فتوى هدم التماثيل في أفغانستان وانتهاء بطرح فكرة تصفية خصوم الرئيس الإندونيسي المطالبين باستقالته، بزعم أنهم خارجون على «الامام» (!).

لم تكن تلك هي المظاهر الوحيدة للتعبير عن الفوضى التي أدعيها، وانما هي أحدث تلك المظاهر وآخر ما تناقلته وكالات الأنباء في هذا الباب، الذي تأتينا منه كل حين رياح عدة، أكثرها يشوه صورة الاسلام ويسيء الى المسلمين، ويقدم مادة مجانية للمتصيدين والكارهين، يوظفونها عادة للتنفير من الاثنين، ولتعبئة الرأي العام ضد كل ما هو ما منسوب الى الاسلام، من العقيدة الى البشر.

قبل عقدين من الزمان نشرت مجلة «العربي» الكويتية مقالة كان عنوانها الذي ما زلت أذكره هو: لو كانت لنا كنيسة! وصاحب المقالة هو الدكتور حسان حتحوت، أحد علماء المسلمين المتخصصين في الطب، وقد تفرغ الآن للدعوة الى الله في الولايات المتحدة، وكانت فكرته الأساسية تقوم على الشكوى من الاضرار المتوالية التي تترتب على فوضى الافتاء، والدعوة الى ايجاد مخرج من المشكل، وقد اعتبر الدكتور حتحوت انه لو وجدت مرجعية فقهية تقوم بالدور الذي تنهض به الكنيسة في ذلك المجال، لتجنب المسلمون تلك الاساءات التي تنهال عليهم من جراء تطوع كل من هب ودب بالافتاء في أمور الدين والدنيا، أحياناً بغير علم ولا هدى، ولا كتاب منير! لم تكن الدعوة تتطلع الى اقامة سلطة دينية أو بابوية كما في الفاتيكان، وانما كانت تطرح أهمية توفير مرجعية فكرية وفقهية للمسلمين، تجنبهم مساوئ الفوضى الراهنة، وتبدد حيرتهم ازاء المواقف والقضايا التي تفرق شملهم.

لسنا نبدأ من الصفر في هذا المجال، فثمة مرجعيات قائمة تؤدي دوراً مقدراً، بعضها معني بالجانب العلمي الأكاديمي، مثل المجامع الفقهية المعروفة: مجمع البحوث الاسلامية بالأزهر، ومجلس المجمع الفقهي لرابطة العالم الاسلامي، ومجمع الفقه الاسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي. وبعض هذه المؤسسات يتبع الدولة التي نشأ فيها، وهي التي تعيِّن اعضاءه، وهي التي تنفق عليه. وربما كان للدولة بعض التأثير على توجهاته ومواقفه. وهو أمر متوقع، اذ طالما أن الدولة هي الراعية وهي التي تمول، فان ذلك يؤثر بدرجة أو أخرى ـ ولو بطريق غير مباشر ـ على ما تصدره تلك المؤسسات المعنية من قرارات أو ما تعبر عنه من مواقف. وقد رأينا مثلاً كيف أن بعض تلك المؤسسات بدا مؤيداً لسياسة التطبيع مع اسرائيل واللقاء مع زعمائها الدينيين، لأن الريح السياسية في البلد المعني مضت في ذلك الاتجاه.

هناك مؤسسات أو مرجعيات أخرى تنهض بدورها على صعيد اقليمي، حيث تخدم بلداً معيناً أو منطقة جغرافية بذاتها مثل المجمع الفقهي للهند، والمجلس الأوروبي للافتاء والبحوث. ليس من شك في أن وجود أمثال تلك المرجعيات كان وما زال له فوائده الجليلة، ولكنه لا يسد حاجة الأمة في مجموعها من ناحية، وفي الوقت ذاته فان استقلالها لم يكن مضموناً على الدوام، الأمر الذي أثر على مصداقية بعض تلك المؤسسات. في الوقت ذاته فان الأغلبية الساحقة لتلك المرجعيات تخاطب أهل السنة وحدهم. وفي حدود علمي فان مجمع الفقه التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي يعد المؤسسة الوحيدة التي يمثل فيها الشيعة الاثني عشرية، ويشارك في اجتماعاته بانتظام أحد فقهاء جمهورية ايران الاسلامية.

هذا الفراغ في المرجعية الشاملة للأمة، يسمح للأصوات النشاز، تلك التي تتردد في بلادنا أو في بعض العواصم الغربية، أن تبدو وكأنها تمثل الأمة أو شيئاً في الأمة. وهي الأصوات التي تتلقفها الأبواق المعادية ـ الغربية وغيرهاـ كي تقدمها بحسبانها تعبيراً عن الاسلام في مجمله.

بسبب من ذلك كله فقد وجدت أن مشروع الاتحاد العالمي لعلماء الاسلام، الذي اقترحه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي ويجري التداول الآن بشأنه بين عدد كبير من علماء الأمة، هذا المشروع يمكن أن يسد الثغرة ويخرجنا من المأزق الذي نواجهه بين الحين والآخر. ومن متابعتي للموضوع علمت أن خطوات عملية عدة اتخذت لانشاء ذلك الاتحاد. حيث وزع مشروعه على علماء المسلمين المعنيين في مختلف اقطار العالم الاسلامي، وتم اقتراح قانونه الأساسي، كما تم الاتفاق مبدئياً على أن تكون امارة الشارقة مقراً له، بعد أن رحب حاكمها الشيخ الدكتور سلطان القاسمي بالفكرة.

وحسبما فهمت من مطالعة وثائق الاتحاد المقترح، فهو لا يلغي المرجعيات الموجودة، وانما يكمل دورها ويغطي المساحات التي تشملها أنشطة تلك المرجعيات. ويحدد مشروع الاتحاد سماته التي ترسم اطار حركته، ومنها ـ فضلاً عن انه اسلامي بطبيعة الحال ـ انه عالمي، يمثل المسلمين كافة، العرب والعجم، والشرقيين والغربيين، والأغلبية والأقلية. وهو مؤسسة أهلية بامتياز، لا تمثل الحكومات ولا تشتبك معها، وانما تستمد قوتها من ثقة الشعوب والجماهير المسلمة. ثم أن الاتحاد مؤسسة مستقلة تماما، لا تتبع دولة من الدول، ولا جماعة أياً كانت، ولا طائفة مهما بلغت، وهي لا تعتز الا بالانتساب الى الاسلام وامته. وفي مواقفه فالاتحاد ملتزم بنهج الوسطية، فلا يجنح الى الغلو والافراط، ولا يميل الى التقصير والتفريط، وانما يتبنى المنهج الوسط للأمة الوسط، وهو منهج التوسط والاعتدال.

ويتطلع واضعو المشروع الى أن يكون الاتحاد المقترح متسماً بالحيوية، فلا يكتفي باللافتات والاعلانات، وانما يُعنى بالعمل والبناء وتجنيد الكفايات العلمية والطاقات العملية، تحت قيادة ثلة من العلماء الحائزين على القبول بين الجماهير، المشهود لهم بالفقه في الدين والاستقامة في السلوك، والشجاعة في الحق.

ومن أهم الأهداف المرصودة للاتحاد توحيد جهود العلماء ومواقفهم الفكرية والعلمية في قضايا الأمة الكبرى، لتبصير الأمة بمواقع الخطر ومظان الفتن، وتجميع قوى الأمة كلها على اختلاف مذاهبها، ما داموا من أهل القبلة، عن طريق السعي الى تقنين نقاط الافتراق وتوسيع نقاط الاتفاق. ذلك بالاضافة الى انارة السبيل أمام المسلمين في الأوضاع المستجدة والأحوال المتطورة في حياة الأفراد والأسر والمجتمعات، من خلال توفير الحلول الناجعة لمشكلات حياتهم الفكرية والعملية.

وفي سبيل تحقيق ذلك، فان اتحاد العلماء له وسائله في توصيل رسالته التي منها: الخطاب التثقيفي المباشر لتفقيه المسلمين في دينهم بمختلف سبل الاعلام والتوجيه، وتوجيه النصح بالرفق والحكمة لقادة المسلمين وأولي الأمر فيهم، والتعاون مع المؤسسات النظيرة العاملة في نفس الميدان، والتوعية الدائمة بالقضايا والأحداث المهمة الطارئة ذات العلاقة بالاسلام والمسلمين، أياً كانت طبيعتها. ومن تلك الوسائل أيضاً فتح أبواب الحوار مع التيارات والمذاهب الفكرية والسياسية المختلفة في الساحة الاسلامية، بهدف تبادل الأفكار والافادة من الخبرات، وتجنب الأضرار الناشئة عن بعض التوجهات السلبية، ان وجدت.

في القانون الأساسي المقترح للاتحاد، ان مقره في امارة الشارقة، وان عضويته مفتوحة لكل العلماء المسلمين، وان ادارته تقوم بها سلطات ثلاث، الجمعية العامة، التي تضم الأعضاء المؤسسين في البداية، وهذه تختار رئيس الاتحاد لمدة ست سنوات، ثم مجلس الأمناء الذي تختاره الجمعية العامة أيضاً، والمجلس يختار من بين أعضائه نائبين للرئيس وأميناً عاماً. أما موارد الاتحاد فتتمثل أساساً في الاشتراكات السنوية والتبرعات والهبات والوصايا والأوقاف التي يقبلها مجلس الأمناء.

مشروع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لا يزال يتبلور، وهو يتحرك الآن بخطى هادئة وحثيثة، ولا أعرف موعداً للاعلان عن ميلاده، لكني واثق من أن كثيرين ينتظرونه بشوق كبير.