ثقافة مدينتين

TT

أين مؤرخ حماة الكبير أبو الفداء ليسجل وقائع هذه التحولات الايجابية في بلده، فها هي عروس العاصي الثانية بعد حمص تجدد مهرجانا ثقافيا عرفته نواعيرها منذ الثلاثينات ثم غاب في جملة من غاب وما غاب من تقاليد الاستقرار الحضاري.

انه مهرجان الربيع الحموي الذي كان يسمى عند بعض محافظات الساحل السوري الرابع، ومن الرابع الى الربيع لا فرق في التسميات ما دام ربيع الثقافة السورية يزدهر في هذا الفصل ليذكر بتقاليد مدينة عريقة ثقافيا وملتبسة تاريخيا لأسباب تضرب جذورها في الجغرافيا.

ان حماة السورية كما هو معروف، محاطة بعدد كبير من القرى المسيحية ليس أشهرها كفر البهم، وهي قريبة ايضا من بلدة الاسماعيلية التي انجبت لسورية واحدا من أهم شعرائها المعاصرين، الشاعر علي الجندي شقيق سامي وانعام وهما من خيرة المترجمين السوريين بعد سامي الدروبي، وقمة انجازاتهما رائعة اراجون مجنون الزا.

وإن كانت قيمة سلمية الادبية تأتي عند طريق آل الجندي والماغوط، فإن لجارة حماة اهمية عقائدية، فهي مركز المذهب الاسماعيلي، ومنها انطلق الى شمال افريقيا عبيد الله المهدي مؤسس الأسرة الفاطمية التي حكمت مصر، وعلى أبوابها قاتل المتنبي في صفوف القرامطة، وإلى تلك المرحلة التي انتهت بسجنه تعود تهمة ادعائه النبوة، التي اتاه اللقب منها بعد انهزام قائده «صاحب الخال» ووقوعه في الأسر.

لقد ظل زمان الشباب الجميل ما بين حمص وحماة وسلمية واللاذقية يعشعش في ذاكرة المتنبي الى آخر أيامه عند عضد الدولة في شيراز، حيث كتب عن ذلك الحنين الى تلك المناطق الفاتنة من سورية الوسطى والساحلية:

أحب حمص إلى خناصرة وكل نفس تحب محياها وما بين الحربين في العصر الحديث صارت حماة مركزا من مراكز الثقل السياسي، والفضل في ذلك يعود الى ثعلب السياسة السورية الراحل اكرم الحوراني.

ولأن السياسة في سورية لا تنفصل عن الثقافة انعشت تلك المرحلة مهرجان الرابع والربيع وكدت أقول والتربيع، فالمشكلة مع السياسيين والمثقفين السوريين انهم ومع قراءتهم لرسالة التربيع، والتدوير ومعرفتهم بالأيام التي يداولها خالق الربيع وزهوره بين الناس، يصرون على تربيع الدائرة، وتدوير المربع والمستطيل، والذين يفعلون ذلك لا بد ان يعودوا الى الثوابت ولو بعد حين.

وقد يسهل علينا فهم غياب حماة ثقافيا بعد الستينات ان لم نربط كل شيء بالسياسة، ففي الوقت الذي ازدهرت فيه حمص ثقافيا وظهرت فيها حركات واعلام منذ المرحلة الرومانسية للقرنفلي والسباعي وجيلهما، غابت حماة عن المشهد المسرحي والشعري والروائي.

ومع حركة الشعر الحديث لمع من حمص عبد الكريم الناعم، وممدوح السكاف، وظلت حماة مخلصة للشعر العمودي ليذهب التجديد الحداثي في حدوده القصوى لجارتها سلمية التي قدمت غير علي الجندي فايز خضور ومحمد الماغوط اكبر الاسماء الشعرية العربية المعروفة في عالم قصيدة النثر.

لقد انعكست المحافظة الاجتماعية والسياسة الحموية على حركاتها الفنية، فصار فنها تقليديا ومحافظا، وهذا ما اغلق في وجه شعرائها معظم المنابر، فليس سرا ان جميع سادة المنابر الثقافية في سورية كانوا من أنصار شعر التفعيلة وحركات التحديث باستثناء مدحت عكاشة، الذي لا يعرف أحد كيف حافظت مجلته «الثقافة الجديدة»، وما هي بجديدة، على نفسها وسط ذلك الطوفان التحديثي الذي لم يدرك اصحابه ان قمة الحداثة ان تسمح لجميع الزهور بالتفتح ولجميع الطيور بالتغريد.

وحين تضيف معطيات الفني الى السياسي بحياد ودون جبن، تدرك عمق العزلة الثقافية التي غاصت فيها حماة قبل انعاش مهرجانها الربيعي منذ أربعة أعوام.

والأذكى من انعاش مهرجان حماة نقله على شاشات التلفزيون، فالمهرجانات كثيرة ولا يحظى بالتغطيات المكثفة إلا أقل القليل منها، وسواء كان التركيز على مهرجان حماة لأسباب ثقافية أو سياسية، لا نملك إلا ان نبارك لحماة وجاراتها ـ بالإذن من توفيق الحكيم ـ بعودة الروح.