الملف السوداني مرشح لنقلة نوعية

TT

شهدت الأيام القليلة الماضية حدوث تطورات مهمة تؤذن بحدوث نقلة نوعية في التعاطي مع الشأن السوداني، وهو ما يمكن رصده عبر عدة عواصم اقليمية وعالمية. ففي البداية صدر بيان الأتحاد الأوروبي في الحادي عشر من هذا الشهر، وتم فيه الترحيب بزيارة الرئيس الكيني دانييل آراب موي للسودان أواخر الشهر الماضي بهدف تفعيل جهود الوساطة التي تعتمدها «ايقاد»، وطالب البيان الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان بالدخول في مفاوضات مستمرة ومعمقة للوصول الى حل سلمي، وانه من الضروري التوصل الى وقف شامل لاطلاق النار تتم مراقبته بفعالية تهيئة للأجواء أمام الحل.

ولم يقف الاتحاد عند أصدار البيان الذي ساندته اضافة الى الدول الأعضاء في الاتحاد، دول وسط وشرق أوروبا اضافة الى تركيا وقبرص ومالطا، وانما تقدم بمشروع قرار الى لجنة الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الانسان المنعقدة في جنيف يساوي بين الحكومة والحركة في انتهاكات حقوق الانسان، كما يدعو الى وقف اطلاق النار، وهو الأمر الذي تلقته الحركة بانزعاج شديد، واصفة مشروع القرار انه مثل البيانات الحكومية، وان دول الاتحاد تخلت عن المبادئ من أجل مصالحها، الأمر الذي يقدح في صدقيتها، ودعت الدول الى عدم تبني المشروع الأوروبي، لكن اللجنة صوتت في العشرين من هذا الشهر بأغلبية 28 صوتا لصالح القرار، الذي لم يعارضه أحد وامتنعت الولايات المتحدة والسودان عن التصويت في اطار اتفاق على اجازة القرار بشكله ذلك رغم الاعتراض على بعض جوانبه.

القرار شكل نصرا للحكومة السودانية، لا بسبب لفت الأنظار الى انتهاكات الحركة لحقوق الاسان خاصة في ما يتعلق بتجنيد الأطفال والتهجير القسري للسكان، وأنما بطلب وقف لاطلاق النار، الأمر الذي يتسق مع الموقف الحكومي ويشكل عنصر ضغط على الحركة ستكون له تبعاته.

وجاء رد فعل الحركة يوم الخميس الماضي بقبولها لفكرة وقف اطلاق النار وربط ذلك بقيام الحكومة بالتوقف عن انتاج البترول، وأن يتم الترتيب تحت رقابة دولية صارمة. وهذه هي المرة الأولى في ما أعلم التي توافق فيها الحركة على فكرة وقف اطلاق النار ومقايضة ذلك بموقف حكومي ومن دون النظر في ترتيبات الحل السياسي الذي يأتي في آخره وقف اطلاق النار، كما كانت الحركة تطالب وبصورة ثابتة منذ العام 1986 الذي شهد لقاء كوكا دام بين الحركة والقوى السياسية الأخرى.

الاتحاد الأوروبي لم يتوقف عند هذا الحد وانما عقد اجتماعا مع قيادات التجمع الوطني الديمقراطي الموجودة في اسمرة يوم الأربعاء الماضي وذلك في مسعى لتوحيد الرؤى في اتجاه العمل من أجل مفاوضات مثمرة ووقف لاطلاق النار.

ثم جاء التطور الذي شهدته الساحة الأمريكية يوم الخميس عندما فاجأ فرانك وولف النائب الجمهوري ورئيس لجنة الموارد والمخصصات التابعة لمجلس النواب، وزير الخارجية كولن باول باثارة موضوع السودان في جلسة كانت مخصصة أصلا للحديث عن ميزانية وزارة الخارجية.

وولف عرض شريط فيديو عن جنوب السودان تم تصويره ابان زيارته للبلاد قبل ثلاثة أشهر وضاغطا في اتجاه أن تتحرك الادارة وتعين مبعوثا رئاسيا للتعاطي مع الملف السوداني. باول رد بما معناه ان ذلك الأسبوع تحديدا شهد حوارا معمقا داخل الادارة لم ينته بعد، لكنه وضع علامات على الطريق وانه تم ابلاغ الخرطوم بضرورة وقف القصف الجوي، وتسهيل مرور الاغاثة وقطع الصلة نهائيا بالحركات الارهابية، وأضاف ان واشنطن رصدت الشهر الماضي انخفاضا في حجم عمليات القصف الجوي، وهي في انتظار معرفة ان كان ذلك مؤشرا حقيقيا نحو السلام، لكنه أضاف بوضوح انه قبل تعيين مندوب خاص ينبغي وضع السياسة التي سينفذها ذلك المندوب، وهو ما لم يتم حتى الآن.

واذا كان الاتجاه الأوروبي الضاغط في سبيل وقف اطلاق النار يدعم الموقف الحكومي، فان بروز طلائع الاهتمام الأمريكي بالسودان، سيقابل بارتياح من قبل الخرطوم. وليس سرا أن العديد من أركان النظام يعطون ثقلا للموقف الأمريكي لتأثيره على المواقف السياسية العالمية والاقليمية الأخرى بل وحتى المحلية. فالقوى المحلية يمكن أن يختلف موقفها من الانخراط في حوار جدي مع النظام اذا شعرت انه على طريق ابرام اتفاق مع واشنطن يمكن أن يؤدي الى رفع حالة المقاطعة والحظر.

الموقف الذي تحتاج المعارضة الى التأكيد عليه وبناء التحالفات والسياسات حوله أن يكون جوهر الحل المنشود التحول الديمقراطي الحقيقي لحل أزمة السودان الكلية، بدلا من الاقتصار على المواضيع الخاصة بالجنوب رغم أهميتها.

الى جانب هذا فان الأمر الذي يستحق التركيز من قبل القوى السياسية هو في كيفية تطوير موقف سوداني موحد خاصة من قبل المعارضة، الأمر الذي يستدعي من القوى التي ظلت بالخارج العودة الى الداخل وشحذ الوجود المعارض الداخلي السلمي، في هذا الوقت الذي بدأ الأفق يضيق فيه بالنسبة للعمل العسكري. فالموقف الدولي يكون نشطا بقدر ما تتمكن حركة المعارضة الداخلية من تقوية مواقفها ورفع صوتها. وكانت مستشارة الأمن القومي الأمريكية كوندوليسا رايز أشارت الى هذه النقطة بوضوح في بداية تسلمها عملها، اذ قالت ان التجربة اليوغوسلافية بينت ان الضغط الخارجي يحتاج الى الاستناد الى حركة داخلية فعالة حتى يمكن انجاز التغيير. وكذلك الاستفادة من الموقف المتقدم والنشط للاتحاد الأوروبي في الاهتمام بالشأن السوداني. أوروبا تقليديا أقرب الى المنطقة وأكثر تفهما لتشابكات القضايا السودانية من الادارات الأمريكية المتعاقبة، وذلك بحكم التاريخ الاستعماري والارث الثقافي. ثم ان الملف السوداني أصبح تقريبا قضية سياسية محلية في الولايات المتحدة تنشط فيه مختلف الجهات ولأسباب تتوزع بين الاهتمام الانساني البحت، الى المصالح التي لا يبدو موضوع النفط بعيدا عنها، الى الأجندة الخفية الأخرى.

في مواجهة موقف مثل هذا لن يستطيع الحكم وحده أو المعارضة وحدها حمل الادارة الأمريكية على تبني المواقف التي تلائمها كلية، وهنا يدخل الموقف الأوروبي، الذي يحتاج الى تطويره لا للمساعدة في التوصل الى حلول للأزمة السودانية المستحكمة، وانما في المساعدة على اعادة البناء بعد تحقيق السلام والتحول الديمقراطي.

الحديث عن الاهتمام الأمريكي والأوروبي ومبادرة «الايقاد» الأفريقية، يستبعد عمليا المشاركة العربية، وهو موقف يمكن تداركه من الجانبين السوداني والعربي العام علما ان هناك مبادرة مصرية ـ ليبية مشتركة وافق عليها الفرقاء السودانيون، وهناك احتمال اتصالات اماراتية مع مركز كارتر بخصوص السودان، يمكن أن تعطي البعد العربي المطلوب للجهد الأمريكي خاصة ان كارتر توسط في الشأن السوداني من قبل وعلى معرفة بتفاصيل الملف.

الأمر الرئيسي الذي يحتاج أصحاب المبادرات العرب الى مواجهته هو حق تقرير المصير للجنوب، الذي لا تخفي مصر وليبيا تحفظهما عليه، في الوقت الذي لن يستطيع فيه سياسي سوداني شمالي، ناهيك عن جنوبي، من التنصل من هذا البند. وربما يكون الحل الأوفق في القبول بما يقبل به السودانيون والعمل الحثيث على ترجيح خيار الوحدة عبر مشاركة ايجابية معروفة ومدروسة في هذا الاتجاه.