البوصلة المفقودة

TT

وما للمرء خير في حياة إذا ما عُد من سَقط المتاع هكذا قال قطري بن الفجاءة الذي هو في الواقع من سلطنة عمان وليس من قطر، وان قالها القطري العماني فصدقوه، فهو من فئة كان لها في الحياة هدفها الاسمى، وهل يوجد ما هو اكثر سموا من منح النفس في سبيل العدالة والمساواة وشيوع المحبة والخير بين البشر.

والبيت اعلاه من قصيدة يخاطب فيها الشاعر روحه بلغة زاجرة ولا يغالي في ظنها ووضعها بين أفضل القصائد في ديوان العرب:

اقول لها وقد طارت شعاعا من الأبطال ويحك لا تراعي فإنك لو سألت بقاء يوم على الأجل الذي لك لن تطاعي وهذه القصيدة تشبه واحدة أخرى لرفيق كفاح قطري هو عمران بن حطان يداعب فيها روحه طالبا منها بسخرية رفيعة ان تفارقه وتبحث عن ارض لا يموت فيها الناس:

ان كنت كارهة للموت فارتحلي ثم اطلبي اهل ارض لا يموتونا فلست واجدة ارضا بها بشر إلا يروحون أفواجا ويغدونا أما الذي ذكرنا بهذا المنحى المنسي في الشعر، فشيء لا علاقة له بالخوارج ولا بالاباضية انما بحياتنا المعاصرة ومجتمعاتنا الاستهلاكية التي اترفت البعض الى ان تكرش، واكسلت عقليا فئة أخرى ترهلت وخلدت كسابقتها الى نوم طويل بحيث لم يعد للحياة هدف غير ان نأكل، ونشتري ونستهلك الضروري وغير الضروري بنهم غريب ثم نتخبط في الاتجاهات كلها دون ان نعرف طريقنا كرحالة فقد بوصلته.

وبربك ايها المنصف المحايد هل هي حياة انسانية تلك التي تحيلنا الى أسوأ ما فينا وتدفعنا الى ان نقلد الانعام في الكسل والتراخي والبلادة، وانعدام الهدف، بحيث لا ينقصنا غير مرض الحمى القلاعية لنصير مثلها ننقل الموت باقدامنا الى أفواهنا.

وحتى في هذه الحالة تظل للانعام ميزة التفوق، فهي بالحمى القلاعية تموت بسرعة اما نحن، فنتجرع الموت البطيء بمجرد ان نستسلم الى ذلك النوع التافه من الحياة التي ننافس بها بهائمنا، وتتفوق ـ احيانا ـ علينا.

ان الحياة دون هدف منطقة شبه محايدة بين الاجترار والابتكار، فإما ان نبتكر وان نبحث عن انسانيتنا ونضع لأنفسنا اهدافا نعيش لتحقيقها او نسقط فريسة للأمراض الاجترارية التي تصيب ذوات الاربع، ولا تعف ـ كما يبدو ـ عمن يدب على اثنتين.

وليس من الضروري ان يكون ذلك الهدف نضاليا وثوريا ضخما اذ يكفي ان نعرف ماذا نريد؟ ولماذا نعيش؟ وكيف يمكن ان نكون مفيدين لهذا الكون؟، ثم نرش على جرح البلادة الجماعية بعض الاحساس بالمسؤولية الانسانية، فكل انسان كما قال ديستويفسكي ذات يوم «مسؤول امام البشرية عما يعانيه الناس».

واذا توفرت تلك الارضية وهذه القناعات وهي من صنف «اضعف الايمان» يسهل بعدها الاتفاق على ما يمكن فعله في الحدود المستطاعة «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» وعند تلك الحدود الكثير من المهام المعطلة والمؤجلة التي نستطيع ان ننجزها اذا اردنا دون ان ننتظر ليهبط علينا جلد عمران بن حطان وشهامته او تتلبسنا شجاعة نادرة المثال كشجاعة قطري بن الفجاءة.