من متاعب الصحافة... إلى هموم الوزارة

TT

في تعديل وزاري طفيف في حكومة البحرين قبل ثلاثة اسابيع تم تعيين نبيل الحمر وزيراً للاعلام. وفي تعديل وزاري مماثل في العراق قبل اسبوعين تم تعيين ناجي الحديثي وزير دولة في وزارة الخارجية التي بات يتولاها رسمياً وبالوكالة طارق عزيز نائب رئيس الوزراء. اما محمد سعيد الصحاف الذي كان وزيراً للخارجية فإنه بات وزيراً للإعلام.

ما يستوقفنا هنا ليست الظروف ولا الحيثيات التي اوجبت هذين التعديلين فهذه تحتمل الكثير من الاجتهادات والتفسيرات. ولكن الذي يستوقفنا هو أن ابناء صاحبة الجلالة السلطة الرابعة (وهو المصطلح الذي لا ندري من اطلقه على مهنة الصحافة، ولماذا كان مثل هذا الاطلاق) يواصلون التقدم في اتجاه المواقع الرسمية وضمن مقولة الشخص المناسب في المكان المناسب.

نبيل الحمر كان طوال عمله كصحافي تُوِّج بترؤس تحرير صحيفة محترمة وكثيرة الرقي هي «الايام» بمثابة وزير إعلام غير رسمي، ومن دون ان يُقلق نشاطه وحيويته ودماثته الوزير الاصيل الرسمي. بل قد يجوز القول ان نبيل الحمر كان في المؤتمرات داخل البحرين وخارجها يكمل دور الوزير الاصيل من حيث التحليلات التي يسمعها الزملاء العرب والاجانب منه، مع فارق ان افق التحليل عنده يأتي اكثر رحابة كونه ليس في موقع المسؤولية الرسمية المباشرة. واذا استمر نبيل الحمر الوزير على الروحية نفسها التي عرفناها في نبيل الحمر الزميل الصحافي، الذي يملك القدرتين (قدرة الادارة وقدرة الكتابة) وبجدارة، فإن صورة جديدة اكثر اشراقاً للإعلام في البحرين ستتسم بها المرحلة الميثاقية من هذه الدولة بسياسات وخيارات وابتكارات تبدو فيها، وكأنما حجم مكانتها في الواقع هو اكبر من حجم مساحتها في خريطة المنطقة.

وفي العراق يأتي إلى وزارة الخارجية ناجي الحديثي كوزير دولة في الوزارة التي بات وزيرها بالوكالة طارق عزيز الذي هو عملياً المسؤول الى يمين الرئيس صدام حسين عن السياسة الخارجية. وناجي الحديثي الذي سبق ان ادار وترأس تحرير الصحيفة الوحيدة التي تصدر بالانكليزية في العراق «بغداد اوبزرفر» مثال للمثقف المتعالي عن الصغائر، المواظب على القراءة وتثقيف نفسه، المحترِم للغة الانكليزية التي برع فيها كمترجم قدر احترامه للغته الام، الحريص اشد الحرص على ان يكون كلامه رصيناً اذا تحدث وان تكون ترجمته امينة عندما يترجم، ومن اجل ذلك فإن مكتبته الشخصية ممتلئة بالمراجع القاموسية التي تصونه من العثرات اللغوية. وهو في تعامله ايام تسلَّم ادارة الاعلام الخارجي في العراق، وقبل ان يتم اختياره سفيراً في فيينا، كان يمزج بين موقعه كمسؤول وواقعه كزميل ترأس وفي ظروف اقتصادية تقشفية بالغة الصعوبة، الصحيفة الانكليزية الوحيدة، وبذلك كان المراسلون الاجانب اقل تبرماً واكثر اطمئناناً الى انهم امام مسؤول يلاحظ بدل ان يزجر، ويتمنى بدل ان ينفعل، ويوصي بالتعقل بدل ان يوصي بالإبعاد، وينتزع برقة ابن مهنة الصحافة التي امضى فيها ازهى سنوات شبابه، غضب زملاء شعروا بمهانة لحقت بهم من عناصر امنية متشددة او عناصر حزبية متزمتة. وقد يكون وضع ناجي الحديثي في المنصب الجديد، خطوة انتقالية لتعيينه وزير اعلام مستقبلاً، او خطوة اولى على طريق تثبيته وزيراً اصيلاً، ما دام طارق عزيز بات وزيراً بالوكالة، وان لديه مسؤوليات قيادية كثيرة لا بد من اعطائها كل الوقت وكثير الاهتمام. كما ان وضع ناجي الحديثي في هذا المنصب هو تكرار لتجربة طارق عزيز نفسه الذي جاء الى وزارة الخارجية من رئاسة تحرير صحيفة «الثورة».

ولكن ذلك لا يعني انه ليس للاختيار موجبات اخرى من بينها ان المرحلة الجديدة تستوجب عملاً دبلوماسياً اقل حدة واكثر مرونة وتفهماً، وتتطلب لغة تخاطب خالية من مفردات التوعد والوعيد والتحذير.

وقبل نبيل الحمر في البحرين ومن ثم ناجي الحديثي في العراق، أوكَلَ الرئيس عبد العزيز بو تفليقة الى جندي آخر من جنود الصحافة ـ كتابة، وليس ادارة او تحريراً ـ منصب وزير الاعلام في بلد المليون شهيد (ايام الثورة) وربع المليون قتيل وجريح (منذ بدأ العنف قبل 8 سنوات). وهذا الجندي هو الدكتور محيي الدين عميمور الذي تسلَّم وزارة الاعلام في الزمن المناسب، على اساس ان صورة الجزائر في الخارج كثيرة البشاعة لكثرة ما أُريق من دم على جنبات مدنها وريفها، ولأن سمعتها لدى اشقائها العرب لم تعد على الهالة التي كانت عليها والتي اختصرتها التسمية توصيفاً بـ «بلد المليون شهيد». كما ان هيبتها امام الاوروبيين، وبالذات امام الفرنسيين الذين انهكوا نسيجها الاجتماعي ولغتها وعروبتها على مدى عشرات السنين، لم تعد على ما كانت عليه في سنوات العقد الاستقلالي الاول، وبات هؤلاء يقولون في مجالسهم، واحياناً من خلال وسائل الإعلام ما معناه ان الجزائريين في غياب فرنسا عنهم باتوا يستعملون الخناجر والسواطير والفؤوس لغة تعامل في ما بينهم، وان وضعهم ايام كانوا تحت الحكم الفرنسي كان افضل بكثير. وهي في اي حال تخرصات الحاقدين الذين غادروا الجزائر طرداً تحت وطأة تضحيات الشهداء الذين ناهز عددهم المليون، وكانوا (الفرنسيون) يحلمون بالبقاء الى الابد في هذا البلد الذي هو بوابتهم الرحبة الى كل افريقيا، فضلاً عن انهم وهم في الخمسينات تأكدوا من ان الجزائر ليست فقط كروم عنب يستخلصون منها افضل انواع النبيذ، وليست فقط بوابة استراتيجية بالغة الاهمية الى كل دول القارة الافريقية، وإنما هي حقول غنية بالنفط والغاز، وصحراء غنية بالثروات الطبيعية، وان كل هذا يحتاج فقط الى ترسيخ الاقدام والبدء باستخراج الثروات وجني خيراتها.

ومن الجائز الافتراض أنه لو أمكن فرنسا البقاء في الجزائر وبدأت عملية إستخراج الثروات المشار اليها لكانت الآن باهمية الولايات المتحدة، بل من المؤكد انها كانت ستصبح اهم دولة في اوروبا لأنها اكثرها غنى. كذلك من الجائز الافتراض ان فرنسا، في شكل او آخر، ليست بعيدة عن المحنة الهمجية التي تعصف منذ بضع سنوات بالجزائر بحيث لا يستقر كرسي الرئاسة، فمن لا يتنحى طوعاً يتنحى قتلاً، او يتنحى تشهيراً، او يتم، وبهدف ان يتنحى، إشعال حرائق الهوية والتعريب والفَرنسة والأمازيغية في وجه نواياه الطيبة لاستنهاض الجزائر من كبوتها، اي بمعنى آخر تعددت الوسائل والغرض واحد، وهو ألاَّ يستقر كرسي الرئاسة. ولنا في حالات الرؤساء الشاذلي بن جديد ومحمد بو ضيَّاف وعلي كافي واليمين زروال وعبد العزيز بو تفليقة المثال على ما نقوله، مع الأخذ في الاعتبار أن الرئيس بو تفليقه بذل ويواصل بذل جهود شاقة كي يواصل دوره الانقاذي ويرد الكيد الى نحر الكيَّادين. وهنا دور الإعلام الذي يمارس اللعبة بذكاء او بدهاء لا فرق، وبحيث يفهم الإعلام الاجنبي بان نواياه غير الطيبة نحو الجزائر واضحة ومكشوفة، ويحقق في الوقت نفسه التفافاً عربياً حول الحكم في الجزائر يقيه شر مخاطر الالتفاف عليه. لكن الذي نلاحظه هو أن نوعاً من السكون يحيط بدور وزير الاعلام في الجزائر، فلا هو يجوب الديار العربية لازالة البقع غير البيضاء عن صورة بلده لدى الاشقاء العرب، ولا هو يترجم قدراته، وهي كثيرة، الى افعال. وما قصدناه بالزمن المناسب لتوزير محيي الدين عميمور هو هذه الظروف المشار اليها وتتطلب صاحب عقلية اعلامية مستنيرة مثل عقليته. لكن الرجل ـ على ما يجوز افتراضه ـ يبدو وكأنه مكبل بسلاسل رئاسية، او بتعقيدات بيروقراطية لا ندري بها، او انه مطوق بمجموعة من الحاسدين الذين لا يريدون للجزائر مغادرة الشرنقة التي هي فيها، أو ربما ان الرئيس بوتفليقة نفسه وضمن سياسة التوزانات يفضل تسيير الامور على نحو ما هي عليه. وهذا ما اصاب كاتباً وصحافياً آخر هو زميلنا في صفحات الرأي في «الشرق الأوسط» صالح القلاب الذي ما ان بات يطرح بعد تعيينه وزيراً للإعلام رؤية جديدة تقوم على معادلة شبه متوازنة حتى احاط به ديناصورات السياسة الاردنية فاستعجل بنفسه امر العودة كاتباً يعرف الطريق، على البقاء وزيراً تائهاً في طرقات الحكم وطرائقه.

والنقطة الاخيرة تقودنا الى القول بأن رائد ظاهرة الاستعانة بالصحافي ليكون وزيراً للإعلام او في الوزارة التي يشكل الإعلام جزءاً من مهمتها كوزارة الخارجية على سبيل المثال، كان الاستاذ محمد حسنين هيكل. ويبدو أن بادرة توزيره غير المقتنع بها ـ ربما لأن الحقيبة التي اختارها له عبد الناصر كانت الإعلام وليس الخارجية ـ قد تكون هي السبب في انه ما ان تسلَّم منصب وزير الاعلام بناء للتعيين المباغت له في هذا المنصب من قِبَل الرئيس جمال عبد الناصر حتى بدأ يسعى من اجل مغادرة هذا المنصب عائداً الى مكانه كصحافي وكاتب تحققت له مكانة لم تتحقق لغيره في الصحافة العربية. وما جرى لمحمد حسنين هيكل جرى لكاتب واعلامي مرموق آخر في السودان هو محمد محجوب سليمان الذي اراد رئيسه وصديقه جعفر نميري ان يكافئه بتعيينه وزيراً للاعلام على نحو مكافأة عبد الناصر لهيكل، لكن الرجل الذي فاجأه هو الآخر التعيين سعى منذ اليوم الاول للابتعاد عن المنصب الوزاري.

عموماً فإنه باستثناء طارق عزيز لم يصمد صحافي وكاتب في منصب وزير الاعلام، ولا حقق انطلاقة من هذا المنصب، نحو المناصب الاعلى كما حدث لطارق عزيز. وما جرى مع غسان تويني وجورج نقاش ومحمد حسنين هيكل ومحمد محجوب سليمان يؤكد ذلك. فهل ان الظروف الراهنة باتت افضل من الظروف التي سادت في اواخر الستينات والنصف الاول من السبعينات. وهل ان اربعة صحافيين عرب، احدثهم ناجي الحديثي في العراق ونبيل الحمر في البحرين، سيصمدون وسيؤهلهم الصمود الى الصعود بالتدرج الى مناصب اعلى؟ وما يقال عن الحديثي والحمر يقال عن محيي الدين عميمور في الجزائر وغازي العريضي، اكثر وزير اعلام لبناني رافقت ضجة الاصرار على التغيير مهمته منذ الشهر الاول لتوزيره؟

ربما نعم. وربما لا. وفي اي حال إن توزير الصحافيين وزراء اعلام هو نوع من التقليد غير مألوف بهذا الشمول خارج العالم العربي. وهو تقليد مستحب ونوع من التكريم للصحافة العربية، أو في معظم الاحيان للذين يتم توزيرهم بغرض ان يرتاحوا من مهنة البحث عن المتاعب، التي هي الصحافة، فإذا بهم يجدون انفسهم يترحمون ومن شدة المعاناة على متاعب ايام الصحافة. وتبلغ بهم المعاناة حد الشوق الى تلك الايام والإسراع في العودة اليها.