من حلب: المفتي

TT

احببت منذ زمن طويل ان اقوم بهذه الزيارة: المجيء الى حلب معرّة معركة النعمان. انه اشعر خط شعري في فصل الحزن والتأمل والمأساة الملحمية: المعري والحمداني وأبو الطيب. الزاهد والمظلوم والفارس. الأعمى والسجين والقتيل. قائل الشعر ونائحه وسيده. هو هو الذي نظر الأعمى الى ادبه واسمعت كلماته من به صمم.

لكن الرحلة الى حلب لم تصدف قبل اليوم، فهي على ثرائها، بعيدة. وهي على غنى مالكها ولونها الأشهب وشهباء حجارتها، مسافة 450 كيلومتراً عن بيروت. واذ سافرت في طول البلدان وعرضها وعروضها فلم يحدث ان تعلمت السياحة غير مرفقة بعمل. لكن ها انا انتقل من «قلعة الحصن» التي بناها الصليبيون واستكملها المماليك وجعلوها تشرف على مدى الساحل السوري، الى قلعة حلب التي بناها الايوبيون ونقلت تصاميمها الى غرناطة وقرطبا وطليطلة وقشتالة، وفيها تبوأ سيف الدولة وفيها كتب عنه المتبني ميميته الشهيرة، «على قدر اهل العزم تأتي العزائم»، وعنها قال «بناها فأعلى والقنا يقرع القنا/ وموج المنايا حولها متلاطم». وقد مكث شاعر سيف الدولة في الشهباء 7 سنين، وفي رواية اخرى ثلاث، فهجرة الى مصر فلما عاد انشد لاميته وأجمل قصائده التي يقول فيها «كلما رحبت بنا الروض قلنا/ حلب قصدنا وانت السبيل».

كان ابن بطوطة كلما دخل مدينة كتب عن اعيانها وعن مضيفيه وقلما كتب في وصف اوصافها. وفي هذا الباب حَتمٌ عليَّ ان اذكر انني كنت طوال هذا النهار ضيف مفتي حلب، الشيخ احمد حسون. وفي رفقته رأينا حلب في الصورتين: تقاليدها الأدبية وتراثها الفكري كما تذوقنا على مائدته اللحم بالكرز والكبة السماقية وسبعة انواع اخرى من الكبة، مع ان الحلبيين يصنعون من اصنافها سبعة وعشرين، ولذا اقتضى ان يعتذر الشيخ الدكتور عن «التقصير».

على ان المغترف الفكري كان تحت العمامة الواسعة البيضاء. وظلم المائدة الروحية التي يبسطها سماحته ان لا حد لتنوعها ولا كفاية منها ولا اكتفاء. فهو ذو حضور يحرض على الطمع المغتفر، فكلما زاد استزدت وكلما انتهلت ظمئت. وقلت له ونحن ننهي في حديقة منزله الريفي نهاراً بدأناه في دار الافتاء، ان الله ميز الانسان بأن اعطاه القدرة على الشبع من الطيبات حتى في حلب وتركه في جوع ازلي الى المعرفة، ومن ادعاها كم ادعى.

كان دليلنا في اسواق حلب القديمة احد تجار النسيج. وكان دليلنا في القلعة عميد الادلاء، الذي روى لنا حكاية المكان بالانكليزية. وفي «قلعة الحصن» تقدم ادلاء كثيرون يتنافسون على المجموعة السياحية الصغيرة، وقد اخترنا او اختارنا بالاحرى، شاب في العشرينات يتحدث الفرنسية والالمانية والاسبانية و«شيئاً من اليابانية» ويروي النكات بجميع اللغات. وفي كل الحالات كان الأدلاء سلوى المكان.