الطلاق قادم والتحالف التاريخي في طريقه إلى الانهيار

TT

كل التقديرات تشير إلى أن هذا الصيف سيكون صيفاً ملتهباً وحاراً بين الدولة الأردنية كدولة، وليست الحكومة فقط، وبين «حزب» الاخوان المسلمين بعد صدامات يوم الجمعة الماضي، التي كانت محصلة وصول الطرفين إلى طريق مسدود، حيث انتهى حوار استمر لأكثر من أسبوعين إلى تحديات وتهديدات متبادلة.

هناك قرار سابق اتخذته الحكومة الأردنية بعدم السماح بالمظاهرات، إلا في أوقات محددة وفي أمكنة محددة أيضا، والحجة أن الشعب الأردني أعرب عن تضامنه وتعاضده مع الانتفاضة الفلسطينية في أكثر من 700 مظاهرة خلال الأشهر الأولى بعد انفجار هذه الانتفاضة، وأن المطلوب الآن ليس الصراخ والصخب وإنما العمل الهادئ الذي يساند الشعب الفلسطيني بالأفعال وليس بالأقوال.

وأكثر من هذا، فإن كثيرين من الأردنيين يرون أنه لا بد من المحافظة على هدوء الساحة الأردنية، نظراً لأن شارون تجاوز التلميح إلى التصريح بأنه سينقل الانتفاضة الفلسطينية من الضفة الغربية وغزة إلى الدول المجاورة، وأن النار التي يكتوي بها الاسرائيليون يجب أن يكتوي بها العرب في كل دولهم وأقطارهم.

ولعل ما يعزز مخاوف الأردنيين من انتقال الانتفاضة من الضفة الغربية وغزة إلى بلدهم وتحولها من انتفاضة ضد الاحتلال والقمع الإسرائيلي إلى انتفاضة ضد الأردن كدولة، أن هناك قوى وفصائل تصر على أن تحرير فلسطين يمر بعمان، وأن المهمة الأولى هي اسقاط اتفاقية وادي عربة الأردنية ـ الإسرائيلية التي جرى توقيعها عام 1994 بعد نحو عام من توقيع اتفاقيات اوسلو الشهيرة وبعد أكثر من عقد ونصف العقد من السنوات من إنجاز معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية.

هناك مخاوف فعلية من أن تفلح وتنجح إسرائيل بقيادة شارون في تصدير الانتفاضة إلى الأردن، فالساحة الأردنية هي الأكثر التصاقاً بفلسطين، لأسباب ديموغرافية وجغرافية متعددة. والأجهزة الأمنية الأردنية استطاعت، خلال نحو سبعة أعوام، إفشال عشرات محاولات استهداف أهداف أردنية وأجنبية، أميركية وإسرائيلية وأوروبية، في عمّان، آخرها قبل نحو أسبوعين، حيث جرى ضبط خلية مسلحة من 13 شخصاً بعضهم جاء من الخارج.

على هذه الخلفية وفي ضوء هذه الوقائع والمعطيات، جرت مفاوضات ماراثونية بين الاخوان المسلمين والحكومة الأردنية، ممثلة برئيس الوزراء ووزير الداخلية، لكن هذه المفاوضات، وآخرها كان قبل ساعات من أحداث يوم الجمعة في الحادي عشر من الشهر الجاري، انتهت إلى الفشل واتخذت القيادة «الاخوانية» قراراً بإجراء هذه المظاهرات رغم أنف الحكومة وضد توجهاتها.. «وليحصل ما يحصل!».

فلماذا هذا التحدي؟ ولماذا لم يسمع «حكماء» الاخوان المسلمين وجهة نظر الحكومة التي رحّبوا بها عندما تم تشكيلها في يونيو (حزيران) العام الماضي بعد استقالة حكومة عبد الرؤوف الروابدة التي اعتبرت حكومة خلافيّة ومثيرة للجدل؟! السبب الأول، هو أن نسيج جماعة الاخوان المسلمين طرأت عليه تطورات حاسمة وجذرية في عقد سنوات التسعينات من القرن الماضي، فتيار الشباب المتأثر جداً بما يجري في الضفة الغربية، والمعجب جداً بالتنظيمات «الراديكالية» الإسلامية في مصر والجزائر، والمتعاطف جداً مع ظاهرة أسامة بن لادن وظاهرة «حزب الله»، غدا القوة التنظيمية الرئيسية في هذه الجماعة، وبات يجذب التنظيم كله نحو التشدد وفك تحالف تاريخي عمره أكثر من نصف قرن مع النظام في الأردن.

لم يعد تيار الشباب مقتنعاً بنهج قيادته التقليدية ولا بمواقفها وسياساتها «المعتدلة والمهادنة»، خاصة بالنسبة لمعاهدة الصلح الأردنية ـ الاسرائيلية، التي أخذت اسماً متداولاً هو «اتفاقية وادي عربة»، وإزاء ذلك فإنه لم يكن أمام هذه القيادة التقليدية إلا «الهروب إلى الأمام» برفع درجة التحدي للنظام الذي تحالف معه «الاخوان» في سنوات الحرب الباردة ضد القوى اليسارية والقومية وايضاً ضد حركة المقاومة ومنظمة التحرير في مرحلة بدايات السبعينات من القرن الماضي.

لقد وجدت القيادة التقليدية لـ«الاخوان المسلمين» نفسها أمام منعطف خطير، فإما أن تتمسك بتحالفها السابق مع النظام وتتعامل مع ما يجري في الضفة الغربية وغزة باعتدال ومرونة وتواصل الصمت إزاء إبعاد قيادة «حماس» عن الساحة الأردنية، فينقسم التنظيم وينفرط عقد جماعة اشتهرت بتجنب الخضات العنيفة واحتواء الظواهر الانشقاقية، وإما ان «تهرب» إلى الأمام وتتخلى عن بعض مواقفها وسياساتها السابقة.. وهذا ما حصل.

في ضوء أزمة حركة «حماس» التي كانت قد تفجرت في عهد الحكومة الأردنية السابقة، حكومة الروابدة، كاد القادة التقليديون يفقدون زمام الأمور، فلقد اتهمهم التيار المتشدد في الاخوان المسلمين بالمداهنة و«الميوعة» السياسية، كما اتهمهم بالتخلي عن حركة المقاومة الإسلامية، لكن رحيل الحكومة السابقة ومجيء الحكومة الجديدة، حكومة علي أبو الراغب، التي وعَدت بمعالجة وضع إبعاد قادة «حماس» عن الأردن، عزز مكانة هذه القيادة، لكن لبعض الوقت ولفترة محدودة.

في هذه الأثناء تفجرت الانتفاضة الفلسطينية، فأصبحت القيادة التقليدية للاخوان المسلمين في وضع في غاية الحرج والصعوبة، فضغط تيار الشباب المتشدد، الذي يطالب بأكثر من المظاهرات والبيانات لإسناد الأهل في فلسطين ودعمهم، تنامى وتضاعف مرة اخرى، بينما بقايا خيوط حلفها مع الحكومة الأردنية تفرض عليها ضبط ردود فعل تنظيم متحمس لا يراعي الوضع الأردني الحساس.

ولعل من سوء طالع هذه القيادة التقليدية ان الاخوان المسلمين خسروا انتخابات عدد من النقابات المهنية وهي في هذا الوضع، وإن الانتخابات البرلمانية الأردنية باتت على الأبواب، وأن حدة المواجهات في الضفة الغربية وقطاع غزة تتضاعف يوما بعد يوم، فأصبح خيارها الذي لا مفر منه هو التمرد على قرارات الحكومة وافتعال مشكلة معها لمعالجة الأزمة التنظيمية الداخلية ولو مؤقتاً، ولاستعادة مد الاخوان المسلمين في الشارع الأردني الذي تراجع بصورة ملحوظة في السنة الأخيرة.

ان هذه القيادة التقليدية تعرف تمام المعرفة ان الأردن يرمي بكل ثقله إلى جانب الانتفاضة والشعب الفلسطيني، وان ما يجري في الضفة الغربية وقطاع غزة بات محور السياسة الأردنية في الأشهر السبعة الأخيرة، وان ضرورات مساندة الفلسطينيين ودعمهم تقتضي الحفاظ على الأردن بعيداً عن التوترات، لكنها أي هذه القيادة، وجدت نفسها أمام إمّا خيار السقوط وانقسام التنظيم، وإما رفع حدة المواجهة مع الحكومة، فاختارت هذا الخيار الأخير.

حتى المناسبة كانت مفتعلة لافتعال أزمة مع الحكومة، فالطلب الذي تقدم به حزب جبهة العمل الإسلامي، الذي هو مجرد وجه العملة الآخر للاخوان المسلمين، كان للاحتفال بذكرى الفتح العمري للقدس، فالانتفاضة لم يرد ذكرها على الاطلاق، كذلك الأمر بالنسبة لمرور ثلاثة وخمسين عاماً على النكبة وقيام دولة إسرائيل.

كانت القيادة التقليدية للاخوان المسلمين بحاجة إلى مجاراة التيار المتشدد في «الجماعة» لتتجنب انقساماً جرى تأجيله أكثر من مرة، فاختارت ذكرى الفتح العمري لمدينة القدس لتكون عنوان المواجهة مع الحكومة، وهكذا، ولأن هذه المناسبة تأتي قبل أيام من ذكرى النكبة الأولى وقيام كيان اسرائيل فوق تراب فلسطين، ولأن الحرب الاسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني تزداد عنفاً وتتعاظم وتتخذ أشكالاً دموية إجرامية، فإن تهمة أن الأردن يقمع مواطنيه الذين يندّدون باسرائيل، حظيت بهامش واسع من المصداقية.

والآن، وقد وصلت الأمور إلى هذا الحد، ماذا سيحدث..؟

البيانات والتصريحات التي اصدرها «الاخوان المسلمون»، أكدت جميعها أنهم سيواصلون المواجهة، وأنهم لن يتراجعوا، ولقد حدّدوا شرطاً تعجيزياً هو: «إما أن تعتذر هذه الحكومة عن تصرفاتها وما فعلت يوم الجمعة، وإما تستقيل»، وهذا يعني أن التصعيد سيبقى مستمراً، خاصة أن أحاديث الصالونات السياسية كانت تتوقع حتى قبل هذه التطورات، إما تعديلاً حكومياً موسعاً، وإما رحيل الحكومة الحالية.

لكن وسواء تماسكت هذه الحكومة وبقيت، معدلة أو غير معدلة، أو رحلت وجاءت حكومة جديدة، فإن ابريق التحالف بين «الاخوان المسلمين» والدولة الأردنية، الذي أصيب بشرخ كبير في السنوات الأخيرة، لا يمكن إعادته إلى وضعه السابق، ما دامت ظروف المنطقة والأردن هي هذه الظروف، وما دام النسيج التنظيمي لهذه «الجماعة» هو هذا النسيج.

وبهذا، فإنه لم يعد هناك سوى أن تحاول القيادة التقليدية للاخوان المسلمين ضبط الوضع التنظيمي لهذه الجماعة وكبح جماح التيار المتطرف، وهذه مهمة يبدو أنها في غاية الصعوبة، وإلا فإن المواجهة غدت تحصيل حاصل، وستكون الأيام المقبلة في غاية الخطورة والسخونة.

إذا ركبت القيادة التقليدية أمواج التيار المتشدد والمتطرف، الذي لا يعترف بعض رموزه لا بالدولة الأردنية ولا بالكيان الأردني، ويعتبرونه كياناً مارقاً ومفتعلاً، فإن الحكومة الأردنية، سواء هذه الحكومة أو غيرها، ستجد نفسها مضطرة إلى اللجوء لما حاولت عدم اللجوء اليه حتى الآن:

أولا: إلزام جماعة «الاخوان المسلمين» بالقوانين النافذة والمطبقة، وفي مقدمتها قانون الأحزاب، وإعادتها إلى وضعها الذي تأسست على أساسه كجمعية خيرية لا يجوز لها القيام بأي نشاط سياسي، ولا يسمح لها بإبداء وجهة نظرها في أية مسألة سياسية لا محلية ولا عربية ولا دولية.

ثانيا: اخضاع أكبر مؤسسة مالية واستثمارية، وهي جمعية المركز الإسلامي التي تقدر كفاءتها بعشرات بل بمئات الملايين، التي هي سرّ قوّة «الاخوان المسلمين»، لرقابة الدولة من خلال إلحاقها بوزارة التنمية الاجتماعية أسوة بباقي الهيئات المماثلة في البلاد.

لن تقبل الدولة الأردنية بأي تعدّ على هيبتها وأي انتقاص لسيادتها، ولن يقبل «الاخوان المسلمون»، إذا لم تبادر القيادة التقليدية إلى تحجيم التيار الأكثر تطرفاً، ان يعودوا إلى الوضعية السابقة، وهذا يعني أن الأيام المقبلة ستشهد، حتماً، الطلاق النهائي بين طرفين تعايشا لأكثر من نصف قرن، وستشهد انهيار تحالف استفادت منه هذه الجماعة أكثر مما استفادت منه الدولة الأردنية.