السياسة واللغة العبرية

TT

«في عصرنا هذا، الخطاب السياسي والكتابات السياسية يهدفان في صورة عامة الى الدفاع عما لا يدافع عنه. ان اشياء مثل استمرار الحكم البريطاني في الهند، او حملات التطهير والتهجير في روسيا، او قصف اليابان بالقنابل الذرية، يمكن الدفاع عنها ولكن بذرائع اكثر همجية مما يستطيع الكثيرون احتماله. تقصف القرى العزلاء من الجو وترشق الماشية بالرشاشات وتحرق الاكواخ بالرصاص الحارق، ويسمى ذلك كله فرض الامن. ويجرد ملايين الفلاحين من مزارعهم ويرسلون هاربين على الطرقات وليس معهم سوى ما في وسعهم حمله، ويسمى ذلك تعديل الحدود. يسجن الناس لسنوات دون محاكمة او يقتلون برصاصة في الرأس ويسمى ذلك «الغاء العناصر غير الموثوقة». في عصرنا هذا ليس هناك شيء اسمه «البقاء خارج السياسة». كل القضايا هي قضايا سياسية. والسياسة نفسها كومة من الاكاذيب والهروب والخداع والحقد والانفصام. عندما يكون الجو العام سيئاً لا بد للغة من ان تصاب».

هذه مقاطع من مطالعة مطولة كتبها جورج اورويل العام 1945 تحت عنوان «السياسة واللغة الانكليزية». وقد ترك اورويل للانكليزية اجمل الابحاث في عمق النفس البشرية ونزعة الاضطهاد، مرة على غرار «كليلة ودمنة» ودبشليم الملك، ومرة في وضوح الاستعمار والاستعباد الذي كان شاهداً عليه خلال عمله في الهند زمن التاج. وكلما تحدث الاسرائيليون عن العنف الفلسطيني وضرورة وقفه وتبعهم في ذلك الاميركيون، اعود الى جورج اورويل و«مزرعة الحيوان» او «1984» او، خصوصاً، «السياسة واللغة الانكليزية».

كان اورويل يقول «في عصرنا، في ايامنا». وقد مات قبل ان يرى العام «1984» او ان يبلغ «العصر» الذي قتل فيه 800 الف رواندي بالسواطير: اضعاف ما قتلت القنبلة الذرية في هيروشيما. ومات قبل ان يرى سلوبودان ميلوشيفيتش يبدد احدى اكبر دول اوروبا الوسطى ويرسل الشعوب على الطرقات ويطلق القتلة والمغتصبين ويسمى كل ذلك، بتعبير اورويل، «التطهير العرقي».

ما اصاب اللغة الانكليزية اصاب جميع اللغات والامم. وطوال 15 عاماً او اكثر كانت اللغة هنا، في لبنان، السلاح الاكثر قتلاً. وقد تواطأ المتذابحون على تسمية تمركز القناصين والمعابر التي تذل عندها الناس كالبهائم وترغم على المشي تحت رحمة الزعيق والاوامر ورصاصة الرحمة، على تسمية ذلك كله «خطوط التماس». واطلق الخاطفون والقاتلون والمدمرون والحارقون على انفسهم تعابير وصفات «الانقاذ». وكانت اللغة في الغالب هي الوسيلة وهي الضحية الكبرى معاً. وكانت هي الخندق الرئيسي الذي احتمى به الجميع، من اجل اعطاء القتل والموت والتجويع والاذلال صفات بطولية. فاصبحت الوحشية «حماية» للقانون والهمجية «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط» والفانتوم 16 دفاعاً عن النفس. وتتلبس اللغة العبرية اليوم لغة الاستعمار القديم وتعابيره ودفوعه، فما الفلسطينيون سوى ارهابيين يحاصرون سيرة من الطيبة والرحمة والكرم الانساني، تدعى آرييل شارون.