مصير الطغاة

TT

قبل ان يموت تشاوشسكو بأربعة ايام سئل عن الاوضاع في رومانيا، وكان في زيارة الى طهران: هل يمكن ان تتأثر بالإعصار الذي يدمدم في شرق اوروبا وتتساقط فيه تباعا عروش الملوك الحمر؟ قال: سلوا شجرة التين هل تنبت حسكا؟ صحيح ان من حولي تساقطوا ولكنكم لا تعرفون الشعب الروماني وقيادته الحكيمة. وعندما سألوه عما يحدث في مدينة «تيمي شوارا» والعصيان المدني خلف قس مغمور؟ قال: اما القس الذي حرض على الشغب فهو اخرق مأفون، وأما من حوله فهم شرذمة قليلون وانهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون. وبعد اربعة ايام كان يحاكم ويعدم ولا يعرف قبره. وانطبقت عليه دورة التاريخ.

واما شاه ايران فقد ضاقت عليه الارض بما رحبت وضاقت عليه نفسه وظن ان لا ملجأ إلا امريكا فخذلته ورفضت استقباله مع انها هي التي صنعته على عينها. وعندما تشفع لأولاده ان يتابعوا دراستهم سمحت لهم بدون رفقة الوالدين. وعندما شكا من المرض قالوا له بعد وساطات وتوسلات انها اقامة للعلاج فقط فاذا قضيت خرجت ولم تعقب. وبعد العلاج دفع بعربة من البوابة الخلفية للمستشفى فخرج من حيث تخرج النفايات وتدخل البضائع. وعندما اصبح في باناما عند ديكتاتور صغير قطعوا عنه التلفون وبدأوا يخططون لتسليمه للحكومة الايرانية الجديدة. وعندما اوى في النهاية الى طاغية مثله بكى سوء الحال وانقلاب الزمن وتنكر الاصدقاء ونفض امريكا يدها منه الى درجة ان افردت له ملفا بعنوان «الخزوق» وان يخاطبه مسؤول امريكي بقوله: يا صاحب الجلالة يظهر انك مختل عقليا. وان يبتلع احد سماسرته سبعين مليون دولار بضربة واحدة فيعض الشاه على اسنانه محنقا: انها سبعون مليونا فهل ضاعت في انابيب المجاري. وفي النهاية كاد ان يموت الشاه غيظا فحبس نفسه في حجرة عندما علم ان رجل اعماله (بهبهانيان) اختفى مثل الملح في الماء بمئات الملايين من الدولارات وهو لا يستطيع ان يقاضيه او يرفع عليه دعوى لانها كانت صفقات سرية. روى كل ذلك حسنين هيكل في كتابه «زيارة جديدة للتاريخ».

وفي مصر فتح يديه بالهبات والمجوهرات التي كان يحملها معه في حله وترحاله عسى ان تؤلف القلوب، وقيل انه حمل معه من ثروة ايران ما زاد عن خمسة مليارات دولار، واعترف مسؤول بنكي سويسري بأن ثروته زادت عن عشرين مليار دولار، وكانت اربع حقائب كبيرة محشوة بالكنوز لا تفارق عينيه حتى قبل موته بلحظات عسى ان تنفعه يوم الزلزلة. وفي النهاية مات بالمرض الخبيث واصبح سلفا ومثلا للآخرين.

ان امريكا تستخدم الطغاة ولا تحبهم، فهي تصيخ السمع لخونة الشعوب ولكنها لا تحب الخائن وتعرف ان دور الجلادين لا يزيد عن «ممسحة زفر» فاذا انتهى دورهم رسا مصيرهم حيث ترمى اوراق المهملات التي نظفت القاذورات لتصبح مع القاذورات وبئس القرار. هكذا رسم مصير الطغاة في التاريخ بريشة سريالية. فكلا اخذنا بذنبه فمنهم من ارسلنا عليه حاصبا ومنهم من اخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من اغرقنا. «وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون». هكذا يرسو مصير الطغاة بين طلقة في الرأس مع جرعة سيانيد كما انتهى هتلر وبين فرعون يغرق في اليم هو وجنوده اجمعين، او الامبراطور الروماني دوميتيان الذي يقتله 14 من اهل بيته دفعة واحدة طعنا بالخناجر. وبين تشاوسيسكو التي انشقت الارض من تحت قدميه فابتلعته، وبين من دارت عليه الدائرة بعد طول جبروت ليعلق من قدميه عاريا كالخروف في المسلخ في ساحة عامة كما حصل لموسوليني وعشيقته كلارا بيتاتشي او امبراطور الحبشة هيلا سيلاسي الذي اودع دورة المياه وردم فوقه بالاسمنت.

ولكن التاريخ يفاجئنا بصورة مبتسرة غير مكتملة، بل احيانا مقلوبة الظل حيث مات ستالين في كل طغيانه وعنفوانه وكانت نظرة مريبة منه الى احد اعضاء المكتب السياسي تجلعه يرتجف هلعا بقية حياته حتى يرضى، كما ذكر ذلك فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب «نهاية التاريخ». ومات فرانكو طاغية اسبانيا عزيزا كريما ووضع جثمانه في ضريح عظيم في مبنى هائل بناه اعداؤه من الشيوعيين المعتقلين، فهو نصب خالد لكل من زار مدريد. وأما لينين فمات وهو يرسل الناس الى الموت بإشارة وكلمة كما كشفت الابحاث الحديثة عن رسائله الاصلية المكتوبة بخط يده والمودعة في سرداب فظيع محفور تحت الارض بثلاث بوابات مصفحة يصمد لقنبلة نووية.

ان لينين كان مفكرا وكاتبا قبل ان يكون حركيا وكتب ما يزيد على خمسين كتابا تمثل الوحي المقدس عند الشيوعيين لمن بقي يعتقد في عصمته حتى اليوم، ولكن اوامر الاعدام كانت عنده قضية روتينية ولا تزيد على مسألة احصائية. فعندما تمرد الفلاحون على المزارع الجماعية (الكولخوز) بعد ان صودرت محاصيلهم كانت اوامر لينين تقضي بانتقاء مائتين من كرام القوم واعدامهم امام اعين الملأ وان يحشر الناس ضحى. فهذه هي اساليب الفراعنة جرت قانونا سرمديا إن الإنسان ليطغى ان رآه استغنى التاريخ اذاً يظهر ثلاثة صور متباينة: طغاة يَقتلون ويُقتلون. وطغاة يَقتلون ويُحملون على محفة عسكرية بكل مظاهر التكريم الى قبورهم فيدفنون في ضريح عظيم كما حصل مع جثة لينين.

وعلى العكس من ذلك بنهاية بعض الصالحين والفلاسفة والانبياء الذين عذبوا وشردوا وقتلوا بدون قبر، فسقراط انتهى بتجرع سم الشوكران. وطعن سبينوزا بسكينة في رقبته، واحرق جيوردانو برونو في ساحة عامة عندما احتفلت الكنيسة قبل اربعة قرون ابتهاجا بالتخلص من اخطر المارقين فأحرقته على النار ذات الوقود اذ هم عليها قعود وهم على ما يفعلون به شهود. وحبس ابن تيمية حتى الموت في سجن القلعة بدمشق ونحر سعيد بن جبير بين يدي الحجاج وهو يشخب في دمه.

الصورة كما نرى ضبابية فبقدر النهاية التي تحمل العبرة في سقوط الجبارين وان الكبرياء سبقت السقوط دوما، بقدر نجاة الكثير من الطغاة بجلودهم في عزة وشقاق، او بالعكس بمصرع الكثير من المصلحين حرقا او ضربا بالرصاص او صلبا او شنقا. فحسن البنّا مات صريعا بالرصاص في شارع عام. والمصلح الديني التشيكي هوس انتهت حياته حرقا. ومات الحلاج صلبا في بغداد بكلمة اختلقت ضده بعد جلده ألفاً وقطعت اطرافه. ومات الحسين وجميع آل البيت معه ذبحا على يد يزيد الخليفة الاموي. وانهى المفكر السوداني محمود طه حياته وهو يتأرجح على حبل المشنقة بتهمة الردة. ماتوا جميعا لا لذنب فعلوه بل من اجل افكارهم ونشاطهم.

هل يمكن ان نفهم ما يحدث ونرى الصورة واضحة متألقة في نهاية الطغاة والصالحين؟ تبدو نهاية الدنيا في بعض الاحوال كوميديا تدعو للضحك وليست خاتمة المطاف او نهاية الدور الاخير على خشبة المسرح، فقد ينتهي طاغية في الدنيا بما يستحقه من لعنة الله والملائكة والناس اجمعين كما حصل مع آركان وميلوسوفيتش في صربيا. او على العكس قد يودع الحياة هنيئا مريئا مرتاحا على كرسي السلطة ويحكم من قبره كما حصل مع جنكيزخان. واذا كان تشاوسيسكو قد دلف الى قبره باللعنة والرصاص فإن نظائرة وهم كثر ماتوا بالهتاف بحياتهم ولطم الخدود لفقدانهم. وهناك من زحفت في موته جماهير هائلة بحيث يفرك المرء عينه ولا يصدق هل هو المجنون ام هم المجانين؟ انها جدلية محيرة كما نرى يحتاج الانسان فيها الى بوصلة جديدة باحداثيات مغايرة ليفهم هذا اللغز. واحيانا يمسك الانسان رأسه بين يديه ويتساءل هل هو في بلاد أليس للعجائب ام ارض عبقر للجن. اننا مطوقون بالظلمات مسحورون سكرت ابصارنا، ختم الله على قلوبنا وعلى سمعنا وابصارنا غشاوة اذا يمشي التاريخ وفق قانونه الخاص وترزح الشعوب في العذاب المهين الى اجل غير مسمى وتتحمل الامم كثيرا ويموت الكثير من الطغاة بكل سؤدد وفخار.

فقد حكم رمسيس الثاني سبعين سنة وانجب مائة من الاولاد، وبقي الفرعون بيبي الثاني متربعا على سدة الحكم تسعين سنة، واما فرانكو فقد استمر يركب ظهور العباد يقودهم بالسوط اربعين سنة كاملة. وهو الذي عين الملك خوان كارلوس الحالي بدلا من ابيه. وعندما مات لويس الخامس عشر طرب الناس في جنازته ولم يصدق اناس انه رحل فقد ملوا حكمه الطويل الذي تجاوز نصف قرن، وعندما رمي بريجينيف في قبره وقع التابوت فتكسر فلم يأبه له احد فالكل مله وانتظر نهاية مرحلته بعد طول عفن. ان الاوضاع السياسية تصل في بعض مراحلها الى ان البلد كله يوضع في ثلاجة فتتجمد فيه مفاصله حتى موت الطاغية.

ونشرت مجلة «در شبيجل» الالمانية في احصائية مثيرة عن اطول الناس حكما، فكان في رأس المخطط حكام العالم العربي في متوسط يصل الى ثلاثين عاما ويزيد في اعلان خفي عن بزوغ عصر الملكيات. ان الطفل عندما يكتمل خلقه في الرحم لا يسأل كيف جاء الى الحياة وهل كان من زواج او سفاح او اغتصاب. وعندما يولد الى الدنيا يأخذ اسمه. وفي عالم السياسة تتخمر الاحداث والايام حبالى وتتكون الاوضاع وتبرز الى السطح فيتعجب الناس كيف حدث هذا وهي من صنع ايديهم. يقول المؤرخ الامريكي ديورانت وهو يستعرض بعض المراحل التاريخية، انه مر عدد من الحكام لم يحصل في فترة حكمهم شيء يؤبه له او يحتاج ان يذكر. ونحن اليوم نتذكر ابن رشد مثل الشعرى اليمانية في افق التاريخ، ولا نذكر اسم الملك الذي عاصره. فقد انمحى اسم الملك من الذاكرة لانه لا جديد تحت الشمس مع انه ايام الملك الموحدي كانت كل مصائر الناس بمن فيهم ابن رشد بين اصبعين من اصابع الحاكم يحركها كيف يشاء مثل اللعب بالمسبحة وهو الذي قرر النفي لابن رشد في عمر السبعين. ان الملك الذي نفى ابن رشد يتمنى لو قرن اسمه باسم ابن رشد. ان هؤلاء الشهداء لا يموتون «بل أحياء عند ربهم يرزقون». انهم كسروا حاجز الموت ومربع الزمن فهم يسبحون في فضاء الذكر الى يوم يبعثون. ان المماليك حكموا خمسة قرون وكذلك العثمانيون.

ولكن مسلسل المماليك البرجية والبحرية يمكن ضغط الزمن فيه فلا يتغير شيء. وهكذا فالزمن كما يقول محمد إقبال ليس دورة الفلك بل حالة النفس وتقلب المجتمعات. ان احدنا تمر عليه اسابيع يعيش مثل النبات وفي بضع ساعات يتطور فيها بأكثر من سنوات. ذلك ان شخصية الانسان هي بتراكم الخبرات وليس بالرتابة اليومية والروتين القاتل. ومن العجيب ان ما يصقل جوهر الانسان ويسمو به في معارج القدس هو المعاناة. ولقد خلقنا الانسان في كبد اننا لا نفهم حركة التاريخ ولا نملك التحليق العلوي لنبصر تسلسل الاحداث ولا نعي لماذا ترزح الشعوب في الضلالة وتسبح بحمد الطواغيت مع انه لا يقدر عليهم إلا بقدر ما منحوه انفسهم. انها «عبودىة مختارة» كما يقول آتيين دي لا بواسيه ولا تحتاج للتخلص من هذه القيود ان تقتل الحاكم او تتآمر عليه. ان ما تحتاجه يختصر بكلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان وهما: «رفض التعاون» و«عدم الطاعة». لكنها وصفة لا يعرفها المثقفون ولا يتقنها المواطنون ولا توجد حولها مؤسسات ولم تخلق بعد في قاموسنا الفكري والكل في الضلال المبين، ان المصلحين الاجتماعيين والفلاسفة المفكرين قد يقتلون او تنتهي حياتهم على شكل اسيف في عصر الظلمات السياسية التي تمر بها الامة، ولكن موتهم يختلف عن موت الطغاة فهم يخضعون لقانون دفن البذرة في الارض كي تخرج منها شجرة باسقة طلعها هضيم تؤتي اكلها كل حين بإذن ربها. ونزار القباني بقي منفيا طول حياته ولم يقبله وطنه إلا جثة، ولكن شعره يقرأه الاطفال قبل الكهول وفي كل الارض.

واما موت الطغاة والجبارين فهو شجرة اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار. ان موت الطاغية هو نهاية نظام ونخبة لأن الحاكم لا يحكم بنفسه بل بشبكة جهنمية يديرها من حوله رهط أتقنوا الاجرام واستكان لهم الناس بالفزع الاكبر. لكن الذي يحدث يتكرر كما حصل مع شاه ايران عندما قال: ان حولي 750 ألفا من الجنود والضباط فمن يريد الوصول الي عليه ان يقفز فوق رؤوس هؤلاء اجمعين. استكبر هو وجنوده بغياً في الارض حتى جاء يوم الزلزلة واتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود، ويمضي التاريخ وتنضج الشعوب ويتقلص ظل الجبارين ويموت اهل الفكر فيتركون املا في الحياة ويسحق الجبارون سحقا. ويكتشف الناس في ذهول ان الموت حق لانه يكنس الطين ويطور الحياة وبذلك يصبح الموت احدى مفردات الحياة.

يقول ديورانت ان الامبراطور كاليجولا قال لجدته انطونيا عندما حاولت نصحه: «اذكري ان في مقدوري ان افعل اي شيء بأي انسان». وأرغمها في النهاية على قتل نفسها. وذكر لضيوفه في احدى الولائم ان في وسعه قتلهم اجمعين وهم متكئون في مقاعدهم لا يبرحون. وكان وهو يحتضمن عشيقته او زوجته يقول لها ضاحكا «سيطيح هذا الرأس الجميل بكلمة تخرج من فمي». وكان يرسل الى النساء ممن يهوى كتابا بالطلاق بأسماء ازواجهن «فلم توجد امرأة ذات مكانة إلا دعاها اليه»، وانفق في احدى ولائمه «عشرة ملايين سسترس» وفرض الضرائب على كل شيء ونفى كل الفلاسفة من روما لأنهم رمز الخطر ومقلقو النوم العام، ومفكر واحد اخطر من فرقة عسكرية مدرعة. وجاء اسم الفيلسوف سينكا في قائمة الاعدام، إلا انه نجا لكي يقتل لاحقا على يد نيرون، ونجا عمه كلوديوس من القتل عندما تظاهر بأنه ابله مجنون. واخيرا طلب من الناس عبادته لانه افضل الآلهة ونصب تماثيله في مداخل المدن والساحات العامة وهو يحيي الجماهير. وفي النهاية قتل على يد ضابط من الحرس البريتوري. وعندما ترددت الاشاعات في البلد انه قتل لم يصدق الناس. ويقول ديو المؤرخ ان «كاليجولا عرف في ذلك اليوم انه ليس إلهاً».

[email protected]