متمردو المكسيك يكسبون تعاطف مفكري أوروبا

TT

الأحداث التي شهدتها المكسيك في الأشهر القليلة الماضية ـ المسيرة السلمية الضخمة لسكان البلاد الاصليين من جنوب البلاد حتى العاصمة، ودخول قادة حركتهم «زاباتيستا» البرلمان المكسيكي والقاء خطاب عن مطالبهم من احترام الحكم الذاتي وحقهم في استثمار ثروات منطقة تشاباس التي يعيش فيها أهل البلاد الاصليون (10 ملايين نسمة) ـ امور تتعدى أهميتها المكسيك الى عدد كبير من الدول اللاتينية، في شيلي ـ البيرو ـ فنزويلا ـ بوليفيا ـ الباراجواي ـ البرازيل وغيرها. إنها أكبر مشاكل القارة الاجتماعية، التي أهملت على مدى عشرات السنين من جانب الحكومات بعد حركات الاستقلال، فكانت امتدادا لسياسة الفتح الاسباني وسياساته في القضاء على سكان البلاد ونهب ثرواتهم وتعريضهم لابادة حقيقية. ان انتشار انظمة الحكم الاوتوقراطية والديكتاتورية العسكرية وما صاحبها من فساد، ثم تعرض القارة لدورات من الازمات الاقتصادية حتى سميت بعض العقود بـ«العقود المفقودة»، حالت حتى الآن دون معالجة هذه المشكلة بشكل جاد.

وقد اختلفت سياسات الحكومات اللاتينية تجاه هذه المشكلة بحسب ظروف كل منها. في الارجنتين ـ مثلا ـ تم القضاء تماما على سكان البلاد الاصليين في عهد الرئيس روساس، في حرب ابادة كاملة، وفي المكسيك كانت للحكومة منذ بدايات القرن العشرين «سياسة» لمعالجة المشكلة، حيث بدأ يتعمق وعيها في كل ما ليس «اسبانيا» أو «أوروبيا»، ولا تزال محفوظة للآن هذه اللوحات الجدارية الضخمة من أعمال فنانين كبار مثل «دييجو ريفيرا» أو «خوسيه اوروزكو»، تنطق بمذلة وبؤس الهندي المكسيكي من جانب الحكومة والكنيسة معا. ثم ـ كما هو معروف ـ تحولت الثورة المكسيكية الى مؤسسة سياسية من الحكم الفردي وما سماه البعض «الديكتاتورية الكاملة». اما في دول أخرى مثل شيلي وأغلبية السكان من أصل أوروبي، فتتبع سياسة خداع النفس وانكار وجود المشكلة في حين ان عناصر المشكلة واضحة وبدرجة كبيرة ولا يمكن تجاهلها. نفس الشيء يتكرر بصورة أو بأخرى في بقية دول القارة مثل بيرو التي قام سكان البلاد الاصليون فيها منذ حوالي عام بمسيرة ضخمة قطعوا فيها على الاقدام نصف مساحة البلاد الى ان وصلوا الى العاصمة وأحاطوا البرلمان عدة أيام.

وقد يبدو غريبا ان يكون سكان البلاد الاصليون في القارة اللاتينية من أكثر المنادين بالحكم الديمقراطي. ان مسيراتهم تنتهي دائما أمام البرلمان، وفي حالة المكسيك كان الهدف الأول لقادة حركة زاباتيستا عندما قاموا بمسيرتهم الشهيرة في 11 مارس الماضي، هو السماح لهم بالقاء خطاب رسمي أمام اعضاء البرلمان بمجلسيه، وهو ما تم لهم بعد مناورات سياسية من حزبي الحكومة والمعارضة وبتأييد من الاحزاب الاشتراكية. لكن حقيقة الامر ان حركة زاباتيستا ومثيلاتها ترى في الحكم الديمقراطي الضمانة الاساسية لأي اتفاق سياسي بينها وبين الحكومات، هذه الحكومات المكسيكية القديمة التي لم تشتهر باحترام الرأي العام المكسيكي أو وعودها له. وبالنسبة لزاباتيستا بالذات فمعروف تاريخيا ان لجوءها الى الصراع العسكري لم يكن إلا ثمرة اليأس من الخداع الحكومي المتكرر الذي ليس له هدف الا التظاهر بوجود حوار صوري لمجرد اضاعة الوقت.

لكن مثل هذه المواقف انتهت بوجود حكومة ديمقراطية برئاسة الرئيس فوكس الذي اعلن اثناء حملته الانتخابية انه سيعطي مشكلة تشاباس ـ مشكلة سكان البلاد الاصليين بقيادة زاباتيستا ـ أولوية في برنامج حكومته، وهو ما شجع كوماندور «ماركوس» ـ زعيم الحركة وعقلها المفكر ومتحدثها الرسمي ـ إلى اعلان ترك السلاح والصراع العسكري، فكان ذلك نهاية لمرحلة وبداية لمرحلة جديدة، مرحلة تتحول فيها زاباتيستا من حركة عسكرية الى قوة سياسية. وبتعبير ماركوس نفسه فالقوة السياسية الجديدة لم تعد قوة تحد للحكومة فقط كالسابق وانما قوة تحد للدولة كلها، بفرض المشكلة على المجتمع السياسي بكل مؤسساته، والواقع فقد ظهرت قدرات «ماركوس» كسياسي محنك ـ بل ومثقف واع ـ من تصريحاته التي أدلى بها الى «جارسيا ماركيز»، الروائي العالمي الشهير، في مقابلة صحافية مهمة نشرت أخيرا في مجلة Cambio «تغيير»، التي يشترك ماركيز في ملكيتها وتحريرها في كولومبيا وتعتبر من طليعة الصحافة اللاتينية.

هكذا تكلم ماركوس قال ماركوس ان مسيرة 11 مارس والاستقبال الضخم الذي قوبلوا به في العاصمة أكد لهم أنهم كانوا على حق في ترك السلاح والتحول الى قوة سياسية. فالعمل السياسي من الاسفل وسط الجماهير هو الضمان الحقيقي لايجاد التغيير السياسي المطلوب ورغم انهم نشأوا داخل الجيش الزاباتي بكيانه العسكري فجيشهم من نوع خاص لانه يريد وقرر ان يلغي نفسه. فالانسان العسكري انسان غريب بل سخيف عندما يلجأ الى السلاح لاقناع الآخرين برأيه، رأيه الذي يرى انه يجب ان يسود، وبهذا المعنى «لن يكون لحركتنا أي مستقبل حقيقي لأنه اذا استمرت كمجرد تشكيل عسكري ستكون نهايتها الفشل كخيار فكري، بل كموقف تجاه العالم الذي نعيش فيه»، واضاف ماركوس بشيء على قدر كبير جدا من الاهمية، عندما قال «إن اسوأ ما يمكن ان نتعرض له هو ان نصل الى الحكم وتنصب الحركة نفسها كجيش ثوري، ففي ذلك سيكون قمة فشلنا الحقيقي، فما كان نجاحا في الستينات والسبعينات لمؤسسة عسكرية سياسية كثمرة حركة للتحرر الوطني سيكون هو الفشل بالنسبة لنا، فلقد وجدنا ان ما اعتبرت انتصارات كانت في حقيقة الامر هزائم متخفية وراء القناع، إذ كان هناك دائما فراغ مهم لا يمكن ان يملأه الا الشعب، أي المجتمع المدني.

وردا على سؤال ماركيز عما يراه في المستقبل اجاب ماركوس: «انك لا يمكن ان تعيد بناء مجتمع أو بناء العالم على أساس من سيستطيع فرض سيطرته على المجتمع أو على العالم. فالمجتمع ـ والمكسيكي بالذات ـ أو العالم، يتكون من أطراف مختلفة ولا بد ان يسود الاحترام المتبادل بين الاطراف المختلفة، بل ويسود التسامح ايضا، وهذا لم نره حتى الآن في أي خطاب سياسي أو عسكري، خاصة في فترة الستينات والسبعينات».

ويضيف ماركوس انه «من المهم بنوع خاص ان تتم بشكل نهائي هزيمة العنصرية في المكسيك وان تصبح هزيمة العنصرية هي السياسة الدائمة للدولة من خلال سياسة تعليمية جديدة واثارة احساس عام مشترك يجمع كل المكسيكيين. إنه لا توجد حتى الآن مائدة تفاوض مع الحكومة لنتفق معا حول الأولويات ونصيغ نظرة ومعايير مشتركة تقاس بها الأمور، ومهمتنا ان نقنع الحكومة بضرورة ايجادها، وإلا فاننا سوف نفقد الكثير».

ردود الفعل في المكسيك مثل كل الصراعات الموجودة في العالم اليوم فصراع زاباتيستا قديم وسوف يحتاج حله الى مزيد من الوقت، رغم النيات الطيبة التي عبر عنها الرئيس فوكس. فبداخل حزب فوكس الحاكم يوجد انقسام من مطالب الحركة ووسائل تحقيقها، إذ لم يوافقوا على السماح لها بالقاء خطابها السياسي أمام البرلمان الا بعد ضغط شديد من الرئيس فوكس نفسه. لكن فوكس يحتاج الى وحدة حزبه لتمرير برنامجه التشريعي الأول الذي يهدف منه الى اعادة تشكيل المجتمع المكسيكي، وذلك في وقت ليس له فيه اغلبية مطلقة لا داخل الكونجرس ولا في مجلس الشيوخ. أسوأ من ذلك موقف المعارضة الرسمية وريثة الحكومات القديمة التي ظلت طوال سبعين عاما على تجاهلها المعروف لهذه المشكلة، بل مشكلة الفقر بشكل عام في البلاد، والواقع ما تزال هناك قطاعات سياسية واقتصادية بل وفكرية من انصار العهد القديم التي يقلقها ان يعطى ماركوس انتصارا في المجتمع المدني الجديد، ويقلقها أكثر ان ينفرد سكان البلاد الاصليون، على أساس الحكم الذاتي، باستثمار موارد الطاقة الضخمة والمتنوعة في اقليم تشاباس.

بين مثقفي العالم لكن لعل أكثر ما يقلق الاحزاب المكسيكية ـ باستثناء اليسارية ـ وأنصار العهد القديم من ماركوس، هو هذا الاهتمام الضخم الذي قوبلت به مسيرة زاباتيستا الى العاصمة وخطابها في البرلمان وتصريحات ماركوس نفسه، من جانب عدد كبير من مشاهير الفكر في العالم، خاصة في أوروبا والولايات المتحدة، ناهيك عن مثقفي ومفكري اميركا اللاتينية. إذ رأوا في الخطاب السياسي للحركة وزعيمها شيئا جديدا لم يعهدوه من جانب الحركات العسكرية التقليدية سواء داخل اميركا اللاتينية أو خارجها. ورأوا في كل ذلك شيئا يمكن ان يوضع في نطاق أوسع من المجال السياسي الداخلي للمكسيك، جزءاً من مظاهرات شعبية ضد الرأي الواحد سياسيا كان أم اقتصاديا، داخليا أو عالميا، جزءاً من تطور بطيء غير محسوس، لكنه يتزايد برفض سيادة الرأي الواحد أو هيمنة دولة واحدة، أو هيمنة اتجاه اقتصادي واحد ـ العولمة. ففي فرنسا عبر عالم الاجتماع الفرنسي Alaine Touraine عن تقديره لماركوس فنسب اليه عمليا كل نجاح فترة انتقال المكسيك الى الديمقراطية، وأثار العواطف تجاهه عندما شبه حركته بحركة «ليخ فاونسا» في جدانسك ببولندا، قائلا انه لا يرى أي جهد ثقافي يستطيع ان يغير من طريقة تفكيرنا مثلما فعل ماركوس. وفي فرنسا ايضا ذكر المفكر Le Bot ان المسيرة الزاباتية هي واحدة من أضخم المسيرات على مستوى القارة اللاتينية كلها. ويتفق الاثنان مع «دانييل ميتران» ـ زوجة رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق ـ على شيء أساسي: قدرة ماركوس على إحداث نوع من التطهير الوطني حول التجاهل التاريخي لعشرة ملايين هندي مكسيكي. وفي اسبانيا قال فازكيز مونتالبان إن حركة زاباتيستا لا تدعي بأنها دعوة دينية تهدف الى تغيير المجتمع بتفويض إلهي، وانما هي قوة سياسية سيكون في مستقبلها تحريك الجماهير. وفي الولايات المتحدة صرح «نوام تشومسكي» ـ استاذ اللغويات في «معهد ماساتشوسيت للتكنولوجيا»، انه لا يستبعد اذا أقام ماركوس روابط وعلاقات بين مجموعات اجتماعية أخرى في العالم، فسوف يكون في مقدورهم ان يغيروا التاريخ المعاصر.

ان التأييد المطلق لحركة زاباتيستا وزعيمها من جانب مثقفي ومفكري أوروبا سوف يعقد من الوضع الداخلي في المكسيك، حيث بدأوا ينظرون الى هذا التأييد كنوع من التدخل في شؤونهم الداخلية، لكن التيار في صف ماركوس أقوى من مثل هذه الحجج القديمة، والمكسيك اليوم غيرها بالأمس، وقد كان «خورخي ساراماجو» ـ الكاتب البرتغالي الحائز نوبل في الآداب ـ على حق عندما علق على يوم المسيرة السلمية لزاباتيستا انه «اليوم الذي تحولت فيه العاصمة المكسيكية الى عاصمة العالم».