متغيرات جديدة في الحالة السياسية بتونس

TT

متغيران رئيسيان يشكلان حاليا الدافع لبعث حالة سياسية جديدة في تونس، اولهما بروز ملامح تأثيرات العولمة على حياة التونسيين الاجتماعية والسياسية، وثانيهما الانظار المرتقبة للانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة (2004). فخلال عقد ونيف، نجحت تونس رغم محدودية مواردها في تحقيق انجازات تنموية سجلت دوائر المؤسسات الدولية اهميتها في محيط يتسم بعدم الاستقرار.

والآن تجد التجربة التونسية نفسها وبعد 14 سنة من حكم الرئيس زين العابدين بن علي، امام اسئلة وتحديات جديدة، تغذيها حساسية الموقع الجيواستراتيجي للبلاد وانخراطها التاريخي في الحداثة واندماجها حاليا في العولمة.

ويكمن جوهر المسألة السياسية المطروحة حاليا بتونس، في ملاءمة العملية السياسية للفعالية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي الذي تحقق، لكن طرح هذه الاشكالية متفاوت في منظور النخب التونسية بحكم موقعها من الحكم او المعارضة، وأبعد من ذلك بحسب الخلفيات التاريخية والآيديولوجية للنخب. وتشكل المسألة الاعلامية مدخلا رئيسيا للعملية السياسية، وقد ظهرت خلال العامين الماضيين مؤشرات دالة على عدم ملاءمة الاداء الاعلامي لوتيرة التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في البلاد.

واستمرت تفاعلات المشهد الاعلامي التونسي وفق اتجاهات ثلاثة:

ـ اتجاه اول لصانع القرار الذي يبحث عن صيغ النجاعة والفعالية للمؤسسة الاعلامية لترسيخ المكتسبات التي تحققت في السنوات الماضية، وكان دعم صحافة الاحزاب وتعديل قانون الصحافة تكريسا لنهج الانفتاح.

ـ اتجاه ثان تجسده مطالب احزاب المعارضة بتوسيع فضاء الحريات الصحافية، من منطلق عبر عنه محمد حرمل، امين عام حزب التجديد (الشيوعي سابقا)، بقوله ان «مزيدا من الحريات الصحافية لن يهدد استقرار البلاد بل يدعمه». وعلى الضفة الاخرى سعت فئات من الجماعات «الغاضبة» داخل تونس وخارجها، سعيا حثيثا لتوظيف خدمات العولمة كوسيلة لتسجيل حضورها المحدود في الحاية السياسية والاعلامية.

ـ اتجاه ثالث، دور الصحافيين وهيئات المجتمع المدني، الذي تشوبه عدة اختلالات، ظهر أبرزها في التعاطي الخجول والمحافظ للصحافة التونسية مع النقاشات الساخنة التي شهدتها قبة البرلمان حول قانون الصحافة. كما برز الاختلال في الاصطدام بين عدد من هيئات المجتمع المدني مع المؤسسات السياسية، الامر الذي قادها الى مآزق. وقد لاحت مبادرات من جانب الرئيس التونسي للخروج من هذه الوضعية، عندما توجه اخيرا للادلاء بحديث صحافي مطول مع صحيفتين محليتين، في ما يعد اشارة لدعم الثقة في اتجاه الانفتاح. واكد الرئيس التونسي مضيه في نهج توسيع حرية الصحافة واحترام حقوق الانسان، داعيا إلى عدم اسقاط حالات التجاوزات الفردية على الحالة العامة في البلاد.

غير ان دور الصحافة التونسية، الذي يفترض ان يصطف موضوعيا مع هيئات المجتمع المدني، تواجهه صعوبات أبرزها التجاذبات التي تعيشها هيئات المجتمع المدني بين اقتراب شديد من الحزب الحاكم الى درجة فقدان الدور، واصطدام مع المؤسسات السياسية الى حد الوقوع في اشكاليات تهدد وضعها القانوني، كما هو الشأن مع رابطة حقوق الانسان ومجلس الحريات. وتتخوف بعض الاوساط في تونس، من ان تقع المبادرة الاخيرة، التي اطلقها المفكر التونسي محمد الطالبي والصحافية سهير بلحسن بانشاء مرصد لحرية الصحافة، في نفس المطب.

المحلل للمسار السياسي في تونس المستقلة، يرصد ترابط وجدلية بين صيرورة العملية السياسية وتفاعلات الحقل الاعلامي. وثمة مؤشرات الآن في تونس على تأثير الفعاليات السياسية في المشهد الاعلامي، لكن هذا الاخير يظل منفعلا بمحيطه السياسي وليس العكس.

بينما يبدو المشهد مختلفا من خارج البلاد بسبب حاسة الالتقاط السريعة التي تتعاطى بها بعض الدوائر الاجنبية مع الشأن التونسي، وهي حاسة تحكمها في غالب الاحيان دوافع ومصالح، وقليل منها منطلقها الدفاع عن الحريات.

وفي انتظار اجندة الانتخابات المقبلة (2004)، يرتفع ايقاع الحركة السياسية وتفاعلات المسألة الاعلامية. وفي غضون ذلك يبدو ان بعض اوساط المعارضة التونسية داخل البلاد، بدأت تتلمس مسالك مغايرة للوسائل التي توختها جماعات وشخصيات معارضة في الخارج خلال الاشهر الماضية، وكان ابرزها التقارب المفاجئ الذي حدث بين محمد مواعدة الرئيس السابق لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين، وراشد الغنوشي زعيم جماعة «النهضة» الاصولية المحظورة، الذي يوجد لاجئا بلندن. ويلتقي الرجلان في حدة معارضتهما للاوضاع الحالية، لكنهما يختلفان في المنطلقات، فالاول ظل الى وقت قريب من مجافي العملية السياسية، والثاني ابعد عنها اساسا منذ تعرضت حركته للاجتثاث بداية التسعينات.

وقد قوبل التقارب بينهما بردود فعل حادة، فبينما اعتبرته دوائر قريبة من الحكم «تقاربا ضد الطبيعة»، تقابله احزاب المعارضة بنوع من الارتياب، لانه اخترق ما يطلق عليه في القاموس السياسي التونسي بـ«الخط الاحمر» والمتمثل في استبعاد «المعادلة الاصولية»، وهي معطيات أرسيت عليها العملية السياسية في عهد الرئيس بن علي، وكان مواعدة واحدا من ابرز دعاتها قبل ان يسجن سنة 1995.

وفي سياق المتغيرات الجديدة في الحالة السياسية في تونس ظهرت في الآونة الاخيرة مبادرة لافتة للاهتمام تتمثل في الحوار الذي فتحه قصر قرطاج مع زعماء المعارضة، حول آفاق الحالة السياسية، وكان اكثرها اثارة لاهتمام المراقبين، الحوار الذي فتح مع نجيب الشابي امين عام حزب التجمع الاشتراكي التقدمي (يسار)، وهو حزب غير ممثل في البرلمان، ويعد ضمن فئات «الغاضبين»، وتتمحور حوله فعاليات من المجتمع المدني. وتتركز اجندة هذا الحوار حول سبل اعطاء ديناميكية جديدة للحياة السياسية والاعلامية في البلاد، والاتجاه لتفكيك بعض الملفات العالقة، وضمنها وضعية الرابطة التونسية لحقوق الانسان، في أفق ايجاد تسوية بين الحزب الحاكم واحزاب المعارضة.

وتضفي هذه الوقائع المختلفة ديناميكية جديدة على الحياة السياسية التونسية، وتكون دوائر «قصر قرطاج» قد اعطت اشارات عديدة باتجاه توسيع مجال الحريات واطلاق سراح بعض المعتقلين وتعميق مكتسبات البلاد.