سورية بعد عام: لبنانيا

TT

بعد عام على رحيل الرئيس السوري حافظ الاسد كان ابرز الامتحانات التي ظهرت علانية هو الامتحان اللبناني. فالجيش والجمارك والعمالة والصحافة ظهرت فجأة كقضايا تمتحن عاصمة الشام التي لا تبعد عن بيروت سوى ساعة ونصف الساعة بالسيارة. ولسببين لا يخفيان على احد كان التساؤل حول مدى بقاء القوات السورية مكبوتا، الاول لان الرئيس الراحل نفسه جعل لبنان من اعمدة سياساته على مدى عشرين عاما متصلة، والثاني هو استمرار الاحتلال الاسرائيلي لثلث الاراضي اللبنانية. وبغياب الرئيس حافظ الاسد سقط نصف السبب، وعقب الانسحاب الاسرائيلي سقط النصف الآخر.

وأمس فاجأت دمشق الجميع بسحبها جزءا كبيرا من قواتها، فهل تم ذلك انحناء للضغط ام انها حسابات سورية اخرى؟! الحقيقة انني سمعت الدكتور بشار الاسد يتحدث عن الوجود السوري قبل وفاة والده وظهر بوضوح لا لبس فيه انه لم يكن متحمسا لذلك الوجود عندما كان يتحدث عن الأعباء الاقتصادية المكلفة، اضافة الى ان إبقاء الجيش بعيدا عن ميدان التمرين ومناقلة القوات ومترستها امر مكلف كأي جيش آخر في مثل هذه الظروف. وبالفعل لم يطل الوقت وقبل ان تعلو اصوات اللبنانيين، سحبت سورية لواء كاملا وازالت معظم الحواجز الامنية من المدن.

لكن لماذا نطقت القوى اللبنانية فجأة ضد الوجود السوري وقالت في عام اكثر مما قالته ضده في عشر سنوات اعقبت اتفاق الطائف. لا شك ان غياب الرئيس حافظ الاسد فتح بابا لمصارحة الرئيس الجديد وان انسحاب الاسرائيليين جعل الالحاح مبررا. وعكس الاشتباك طبيعة مسرح الصراع بين القوى اللبنانية فأفرز نجوما جديدة خاصة على الجانب المسيحي.

ولعل تبرم بعض اللبنانيين حفز القيادة السورية لتفكر مليا في التعامل مع المشكل اللبناني. فالعلاقة ستستمر والتأثير السوري سيستمر حتى لو خرج آخر جندي سوري، فهذه نتيجة الجغرافيا السياسية. هذه جمهورية ايرلندا لم تُعرف عنها مواقف مخالفة لبريطاني. وحتى كندا، وهي البلد الكبير، سياستها تابعة للجارة العظمى الولايات المتحدة. في الاطار الجيوسياسي تقبل سورية ان يختلف لبنان في انظمته واسلوبه في الحكم عنها لكن درجة حرارتها ترتفع عندما يمس الاختلاف القضايا الامنية والشؤون الخارجية.

وفي تصوري، ان الرئيس كان يريد ان يدير سياسته مع لبنان بأسلوب مختلف، وبأقل التكاليف والمخاطر، وينصرف الى اصلاح اقتصاد بلاده، لكن الاصوات المرتفعة الباحثة عن الزعامة باسم محاربة الوجود السوري تسببت في تأخير الحركة. وقد لا يرى البعض دلائل على التبدل السوري لكننا نلمسها في قضايا لا تقل خطورة، فقد فتحت دمشق علاقاتها مع بغداد بعد قطيعة دامت عشرين عاما، وفتحت ايضا ابوابها الشمالية مع انقرة بعد ان كادت تبلغ الامور درجة الحرب قبل خمس سنوات. واعادت الحرارة الى علاقاتها المجمدة مع عمان واعادتها كذلك مع السلطة الفلسطينية بعد قطيعة، عمرها اكثر من عقد. كل هذه الخطوات تمت في ظرف عام فقط.

حلقة الغد حول الصراع السوري ـ الاسرائيلي.