شهر أميركي طويل لفك الارتباط بين الانتفاضة والعراق

TT

هل يكون الرابع من تموز (يوليو) المقبل هو الموعد غير المعلن الذي حددته واشنطن لمهمة مدير وكالة الاستخبارات المركزية جورج تينيت، لتثبيت وقف اطلاق النار بين الفلسطينيين والاسرائيليين؟ وهل يتزامن هذا الموعد مع انتهاء «خطة المائة يوم» التي اعدها رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون للقضاء على الانتفاضة الفلسطينية؟

وهل الموعدان السابقان على علاقة ببداية «خطة العقوبات الذكية» التي اعدها وزير الخارجية الاميركي كولن باول، بشأن العراق والتي من المتوقع ان يعرضها في مطلع تموز (يوليو) على مجلس الامن الدولي؟

وهل يتوصل الرئيس الاميركي جورج بوش الذي يجتمع اليوم مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين الى اتفاق حول العراق، علما بأن الرئيس الروسي يؤيد تثبيت وقف اطلاق النار في فلسطين، لكنه يعارض تضييق الخناق على النظام العراقي؟

كل هذه الاسئلة والمواعيد تدل في ما تدل على ان جورج بوش يولي موضوع العراق اولوية على ما سواه من مواضيع الشرق الاوسط، بما فيها موضوع الصدامات الدائرة في الاراضي الفلسطينية. وقد سبق لوزير الخارجية الاميركية ان عمل على تنفيذ سياسة الادارة الاميركية الجديدة التي ترمي الى ترتيب هدنة مؤقتة في فلسطين ريثما يتم له فرض «عقوباته الذكية» على العراق، غير انه رأى نفسه مضطرا للاعتراف بأن الانتفاضة الفلسطينية تعيق اطلاق السياسة الاميركية تجاه العراق وتجعل تنفيذها اكثر صعوبة، وكأنه يقر ضمنا بأنه لا بد من معالجة الوضع الفلسطيني كشرط اساسي لأية معالجة ناجحة للوضع العراقي.

هذا في النظرية. اما في التطبيق فإن واشنطن تعمل على خطين متوازيين حتى اذا ما نجحت في احدهما، مارست الضغوط من اجل انجاح الخط الآخر: خط وقف اطلاق النار في فلسطين، وخط فرض العقوبات على العراق في الامم المتحدة، من هنا تكتسب قمة بوش ـ بوتين اهمية قصوى، وتبدو واشنطن ضاغطة بكل الوسائل لضبط الوضع الفلسطيني ـ الاسرائيلي قبيل انعقادها.

وتذكرني هذه القمة بلقاءات القمم بين قادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في زمن الحرب الباردة والتي غالبا ما كانت تنتهي الى تقاسم النفوذ بينهما على العالم. اما في زمن الاحادية الاميركية فإن جورج بوش واثق من انه سيتوصل الى تسوية مع فلاديمير بوتين في شأن العراق تسمح له بتضييق الخناق على بغداد. واقرأ في هذا المنحى الضغوط الاميركية المتزايدة التي تمارسها واشنطن على ارييل شارون وياسر عرفات معا لاحقاق وقف اطلاق النار الذي يخدم السياسة الاميركية في العراق.

ومن شأن هذه الضغوط الاميركية ان تضع كولن باول في مواجهة رئيس الوزراء الاسرائيلي بعدما كانت تضعه في مواجهة الرئيس الفلسطيني فقط. وقد بدأ وزير الخارجية الاميركية يتشدد بعض الشيء في موضوع «الاستيطان الاسرائيلي» كما هو يتشدد في المطلق في موضوع «العنف الفلسطيني».

واذا اخذنا بعين الاعتبار ان كولن باول يريد تنفيذ خطته حيال العراق، ولا يريد لها ان تتعرض لأي عرقلة نتيجة ما يحدث في فلسطين، لأدركنا ان وزير الخارجية الاميركية بات في سباق مع الوقت ليمنع اي تدهور امني بين الفلسطينيين واسرائيل. ويبدو ان وزير الخارجية الاميركية مقتنع كل الاقتناع انه بقدر ما يضبط الايقاع بين ياسر عرفات وارييل شارون، بقدر ما يضع واشنطن في موضع افضل لتحسم الامر لصالحها في العراق.

وما يشجع السياسة الاميركية في غيها ان اطراف النزاع في فلسطين وصلوا جميعا الى عمق المأزق. ارييل شارون يتخبط في «خطة المائة يوم» ويعجز عن تحقيق اهدافها يوما بعد يوم، وهو بحاجة الى التقاط انفاسه للخروج من المأزق الذي حشر نفسه فيه. وياسر عرفات بدوره يتخبط في بحر الانتفاضة ويعجز عن استثمارها ليفرض على ارييل شارون استئناف المفاوضات السياسية التي تشكل خشبة الخلاص بالنسبة له. والانتفاضة على صمودها الباسل امام حملة ارييل شارون الشرسة ما زالت عاجزة عن اسقاطه نتيجة الدعم الذي يلقاه من قبل المجتمع الاسرائيلي الذي لا يزال يتصور ان الحكومة الشارونية قادرة على سحق الانتفاضة، ولم يبدأ بعد بالتفكير بالبدائل سواء لمواصلة الحرب أم لإحياء مفاوضات السلام.

ومن نافلة القول، والصورة هذه، ان مهمة جورج تينيت تدخل في اطار الحسابات الاميركية في العراق لشهر تموز (يوليو)، وليس في اطار حل النزاع الفلسطيني ـ الاسرائيلي. وقد ارتضى كل من ارييل شارون وياسر عرفات التعامل براغماتيا مع الحركة الاميركية ارضاء للرئيس الاميركي وتسهيلا لمحادثاته مع فلاديمير بوتين في شأن العراق، علما بأن ارييل شارون يفضل منطق جورج تينيت ويتحفظ على تقرير جورج ميتشيل، في حين ان ياسر عرفات يفضل تقرير جورج ميتشيل ويتحفظ على تقرير جورج تينيت. والواقع ان الكل يدرك ان أقصى ما تسعى اليه واشنطن في الوقت الحاضر هو وقف اطلاق نار لا أكثر ولا أقل، بقصد فك الارتباط بين موضوعي الانتفاضة والعراق. ومتى تحقق لها ذلك، فهي سوف تنصرف الى تنفيذ سياستها حيال العراق ولن تعير المفاوضات على المسار الفلسطيني ما تتطلبه منها من اهتمام، وكأن ابعد اهداف واشنطن هي العودة الى ما كان عليه الوضع قبل اندلاع الانتفاضة.

في هذا السياق تمتنع واشنطن عن الضغط على ارييل شارون لتقديم التنازلات من اجل تثبيت الهدنة، وتكتفي فقط بالطلب منه ضبط العمليات وعدم التصعيد العسكري مراعاة للشعور العربي العام كي لا تضطر الدول العربية الى اتخاذ موقف معارض للعقوبات ضد العراق. في المقابل تطلب الادارة الاميركية من ياسر عرفات تقديم التنازلات، بل الالتزام بشروط الهدنة والعمل على ضبط عمليات الانتفاضة، مما يسمح بتبريد الملف الفلسطيني بقصد تحمية الملف العراقي، لكن رد السلطة الفلسطينية جاء ليربط بين الترتيبات الامنية والترتيبات السياسية، وهذا ما يرفضه ارييل شارون ومعه واشنطن. اما الانتفاضة التي لا تهمها مدى انعكاسات حركتها على السياسة الاميركية حيال العراق علما بأن عداءها للولايات المتحدة اكبر من خلافها مع صدام حسين، فهي تركز في كل حال على اسقاط حكومة ارييل شارون ولا ترغب في الانصياع للسلطة الفلسطينية.

ان افضل وصف لمشهد الشرق الاوسط في هذا الشهر الاميركي الطويل جاء على لسان ولي العهد السعودي، الأمير عبد الله بن عبد العزيز، حين قال : «اننا نجلس جميعاً على برميل بارود يمكن ان ينفجر في أي وقت».

من جهتها، ترفض بغداد «العقوبات الذكية» وترى فيها وصاية دولية دائمة على العراق. اما الانتفاضة الفلسطينية فتستمر على الرغم من الضغوطات والمخاطر، والسلطة الفلسطينية ترد سياسيا على الاقتراحات الامنية الاميركية ـ الاسرائيلية. وارييل شارون يصف ياسر عرفات بانه «أسامة بن لادن الفلسطيني» وواشنطن تدعو رئيس الوزراء الاسرائيلي لزيارتها للتشاور في كيفية مواجهة مرحلة ما بعد يوليو (تموز) القادم. زيارتان لارييل شارون لواشنطن في غضون اربعة اشهر، في حين ان جورج بوش لم يجتمع بعد مرة واحدة مع ياسر عرفات! كل هذا يجري على أرض العرب... ولكن أين العرب يا ترى؟