«الشرق الأوسط» في عاصمة القبائل بالجزائر (1): المتظاهرون لا يريدون أن تتحول الأمازيغية إلى «الشجرة التي تغطي الغابة»

TT

قليلة هي المرات التي غادرت فيها الجزائر بعد زيارة عمل او فسحة وانتباني شعور بالحزن والأسى الشديدين على الواقع الذي آل اليه حال غالبية سكانها، كما حصل معي هذه المرة.

في اوج سنوات الارهاب كان بريق الامل وقوة الصمود يتبلوران جليين في حركية المجتمع وكانت مواقف الناس تدل على ان عنف الاصولية والتطرف لن يرضخهم ولن يحول بينهم وبين مشروع المجتمع المنفتح والتعددي الذي يصبون الى العيش فيه.

غير ان الكيل طفح، هذه المرة، ولم يطفحه ارهاب الاصولية ولا مجازرها بقدر ما دفع اليه غياب الحلول للصعوبات المعيشية التي يعيشها ما يزيد على نصف المجتمع إن لم نقل ثلاثة ارباعه، او طبيعتها الترقيعية في حالة وجودها التي لا تسمنهم ولا تغنيهم عن جوع.

وتبين لي بوضوح من خلال زيارتي للجزائر، التي عادت المطالبة الشعبية تسكن شوارعها، وايضا من خلال جولة قمت بها الى عاصمة القبائل الصغرى بجاية، ان الاحداث العنيفة الاخيرة حتى وان اقتصرت على منطقة جغرافية محددة فطابعها في جوهره اكثر شمولية يسعى للتعبير عن صراع وجودي ضد القوى التقليدية والمتطرفة. صراع مجتمع يرفض الاستسلام لواقع الانهزامية التي تنحدر به تدريجيا الى عهد ليس ببعيد، يذكره بعهد «الخماسة والخماسين». اي تلك الفترة من الاستعمار التي كان فيها الجزائري اجيرا مستغلا في مزارع الفرنسيين الاقطاعيين ـ كما تدفعه للتنكر لحقه في مواطنة كاملة غير منقوصة في ربوع دولة تطلب تحريرها تضحيات تقريبا كل عائلة فيها. فاينما توجهت بحثا عن اولئك المطالبين بالاعتراف التام بالهوية الامازيغية وترسيم لغتها، كنت اجدهم بالفعل امامي غير انهم يحذرونني من تصديق ان مطالبهم ترتكز على الهوية وما جرى الحديث عنه من استقلالية. هؤلاء لا يريدون ان تتحول الامازيغية الى «الشجرة التي تغطي الغابة»، فتهمش المطالب الفعلية لانتفاضتهم التي تحمل في طياتها، كما يؤكدون، طموحات «العيش تحت علم جمهورية فعلية وليس بالاسم فقط». وبالامكان لمس هذا التطلع من خلال تنديدهم القوي بكافة انواع الاستغلالية و«الحقرة» التي تحولت الى اسلوب معاملة تجاه اي شخص لا وساطة له ولا جاه. علما ان هذا المفهوم (الحقرة)، ابرزته الاحداث كمصطلح يستحق من علماء الاجتماع والسياسيين التعمق في فهمه وصلاته بماضي المنطقة الاستعماري، لعل في ذلك شفاء يكف غضب المتظاهرين.

ريح التغيير وهكذا، ومنذ اللحظات الاولى من وصولي الى الجزائر، لمست ريحا تهب عليها. فالصراع تجاوز هذه المرة المواجهة بين الاصولية والحكم، اذ دخل معركة مشروع المجتمع الذي يريده الجزائريون،. اذ ان تطرف الاصولية وتحولها للعمل المسلح اعدمها او بالاحرى اقصاها، وحان الوقت لقوى المجتمع المدني المكبوتة من احزاب او ما تبقى منها، وجمعيات ثقافية وحتى شعبية من تنظيم مطالبتها بالمجتمع الذي يعترف بالفروقات الثقافية والايديولوجية واللغوية ويحترمها. فالدولة الجزائرية التي حددت نظرتها الاحادية المركزية لدى الاستقلال في ثوابت ثلاثة لا رابع لها وهي الجزائر بلدنا والاسلام ديننا والعربية لغتنا عززت لدى الكثيرين من مواطنيها الاحساس بالاقصاء والتهميش. وها هي اليوم، مرة اخرى مدعوة من شرائح واسعة ونخب مجتمعها الى اعادة النظر في مراجعها التاريخية وتصحيح ما يجب تصحيحه في دستورها. ايام قليلة في انتظار الانتقال الى ولايات القبائل، لم اشهد مثيلا لها لكثرة وتنوع المطالب، وكأنه صندوق انفتح فجأة تحت وطأة البطالة والهيمان وعنف المجتمع والعائلة. وبعيدا عن منطق «المؤامرة» الداخلية والخارجية، التي تعودنا عليها في الخطاب الرسمي، فان النظرة التي تتبلور للمراقب، من خلال سماع شهادات طلبة الجامعات وشبان تيزي وزو الذين التقيتهم خلال مظاهرتهم وسط العاصمة ـ امام تعذر تنقلي الى الولاية لظروف قاهرة ـ وصولا الى مراهقي وشباب بجاية فانه يبدو ان المعادلة الاساسية المتعلقة بالقضايا المعيشية والاقتصادية عادت لتربك علاقات الدولة بمواطنيها.

وحتى وان لم تر بين اللافتات ما يشير الى: «من اين لك هذا؟» و«كيف لك هذا؟» و«منذ متى لك هذا؟»، الا انها تساؤلات موجودة في الشارع دفعت حرقتها الجزائري الى الانتحار الذي تنوعت اشكاله، لا سيما بعد ان انهار دخله في فترة زمنية وجيزة، وتحول للبحث عما يقتاته في قمامات زبالة الاسواق والبيوت المجاورة له. وقال احد المسؤولين الشباب في احدى الوزارات معلقا على هذه الظاهرة «منذ الاستقلال ربوا الناس على شعارات الاشتراكية وبانهم «سواسية» وكل شيء في الوطن «من الشعب الى الشعب» الى ذلك من الشعارات، ولم يحضروه الى التخلي والانسحاب الكامل للدولة من حياتهم بحكم متطلبات الليبرالية الاقتصادية وشحة الموارد وغير ذلك من الحجج التي تشير الى نسيان «البقرة الحلوب» (الدولة) من حياتهم». وما لا يشير اليه المسؤول الجزائري، ان انسحاب الدولة من «حياة الناس» من دون سياسة اجتماعية دقيقة تحمي المجتمع من التفسخ، لم يكن لمجرد شحة مواردها، اذ ما يعز في نفس هؤلاء ان «البقرة الحلوب» لا تزال حلوبا غير ان «حليبها» موجه للاستهلاك الخاص وليس العام.

وقبل 10 سنوات، لخص لي زعيم اتحاد العمال الجزائريين المغتال بن حمودة في مقابلة نشرت عندئذ، ان الدراما التي تعيشها بلاده قائلا: «قصة الجزائر هي التي بامكانك عنونتها عبارة عن «5 ضد 95»، اولئك الـ5 في المائة من مواطني بلاده الذين يملكون كل شيء، واولئك الـ95 في المائة الذين لا يملكون شيئا.

والشعرة التي قصمت ظهر البعير هنا، ان ظاهرة عدم التملك بالنسبة لهؤلاء لم تعد تقتصر على عدم الحصول على البيت والسيارة والمتجر او غير ذلك من المكتسبات المادية، بل تجاوزتها الى احساسهم بأن الحلم، المحرك والدافع لوجودهم قد سلب منهم. هذا النوع من الحرمان، واليأس الذي يصعب وصفه، كما يصعب التنبؤ او التحكم في ثوراته او نزعاته، ليس وليد ارهاب الاصوليين فقط، بل «ارهاب مؤسسات اقتصادية» و«ادارات فاشلة» تختبئ خلف قرارات ادارية وشعارات فارغة لتغطي عجزها في طرح البديل للملايين من الشبان المقبلين على سوق العمل او التكفل، عبر سياسيات اجتماعية توجد حتى في اقدم الدول الرأسمالية، بتلك العائلات التي قذف بمعيلها الى خارج مكان عمله.

والاخطر من ذلك، ان هذا الفشل او الجمود نمت الى جواره او موازاة معه ثقافة تعزي كل مساوئ البلاد الى الخطر الخارجي الذي يهددها، في حين ان الخطر الاساسي الذي يهددها نابع من صلب عمل او لا عمل اجهزتها. وهكذا، اصبح لمفهوم الوطنية وخدمة الوطن والولاء تعريفات جديدة لدى هذه المؤسسات، اذ اصبح الولاء في جزائر اليوم «سجلا تجاريا». وذلك، عوض ان يتوقع أي عاقل ان دولة كاد الارهاب ان يأتي على اركانها ويدحر شعبها ان تعزز احساس شعبها بولائهم لها ولمؤسساتها سواء كانوا هؤلاء داخلها ام خارجها، وليس العكس السهر او التغاضي عمن يعززون ولاء الناس لاشخاص او مجموعات، مهما كان نفوذها، في وقت تبعثرت فيه السلطة بين سلطات لا قبعة ولا عنوان لها.

والملاحظ، ان روح التذمر امام المشروع الذي لا ينطلق، والتي تشترك فيها شرائح المجتمع من تمنراست جنوبا الى جيجل شرقا، ومن وهران غربا الى الجزائر العاصمة شمالا، (ما تفسره الاضطرابات في خنشلة وعنابة) لم تدفع بشبان العاصمة الى الانخراط او المساهمة في المسيرات التي استفزتهم كل خميس منذ اسابيع وتكرر دعوتها لسكانها بالانضمام اليها والتعبير عن غضبها هي الاخرى. رجال الماضي وهذا ما اوضحه متظاهرون من القبائل حين نادوا في المتفرجين على مسيرتهم قائلين: «نحن فتحنا لكم الطريق فالتحقوا بنا». وفي حين بقي الجميع ساكتا لا يعرفون ما يردون به على هؤلاء، احتراما لموتاهم وجرحاهم، صرخ فيهم شاب قائلا: «موتوا أنتم فنحن يكفينا». وبالفعل، جاء كلام الشاب في صميم القهر والملل والنار الحمراء التي عاشها سكان العاصمة تحديدا خلال السنوات الاولى من الارهاب على مستوى احيائهم، حين انطلقت حملة «التنظيف» للقبض على معظم الشبان الناشطين السابقين في «الجبهة الاسلامية للانقاذ» المحظورة من جهة، ومطارداتهم من الجماعات الاصولية المتطرفة التي اعلنت تمردها على الحكم، لجلبهم للانخراط في صفوفها او العمل لها كمخبرين او عيون ساهرة وحامية لتحركاتها وتحركات «امرائها» داخل الاحياء من جهة ثانية. فجهنم سنوات الارهاب وحرب الاحياء التي ادت في النهاية للقضاء على الشبكات المسلحة المتطرفة داخل العاصمة لم تمر من دون ان تترك تأثيراتها العميقة في نفوس التركيبة الشابة من «العاصميين» (سكان العاصمة)، الذين اضطر الكثير منهم، نظرا لهذه الملاحقة المزدوجة، الى الهجرة او اختيار الانطواء والعزلة من اي حركة سياسية. اضف الى ذلك، ما قاله نسيم هو شاب في نهاية الثلاثينات حين اشار الى ان «هؤلاء (شبان القبائل) لم يتمسكوا بمطلب واحد كالديمقراطية او التنديد بعودة رجال الماضي مثل مساعدية (رئيس مجلس الامة الحالي)، او الشاذلي بن جديد او ان توفر لنا الحكومة مناصب عمل او حتى فقط ان ترسم الامازيغية كلغة وطنية، بل انهم نادوا بكل شيء وكسروا كل شيء، وهذا ما يجعلنا نشكك في نياتهم او نيات الذين دفعوا بهم الى الشارع».

ومن بين الامور التي بامكان المراقب لمسها، وأدت هي الاخرى الى طفحان الكيل، كما اكد نسيم وغيره ممن تحدثت اليهم، ان حالة الكبت التي يعانون منها، نظرا لغياب الفضاءات التي تسمح لهم بابداء آرائهم تجاه تطورات الاحداث في بلادهم، ساهمت الى حد كبيرفي احداث الاسابيع الماضية.

وفي هذا المضمار، شدد بعض الشبان الذين التقيتهم على انهم «لم يستفتوا» في قرار اعادة تنصيب شخصيات مسؤولية في رأيهم عن الوضع الذي يعيشونه. واشار نسيم بالقول الى «ان السلطة فتحت على نفسها النار لما توجهت الى اعادة إحياء من كنا نتوقع ان 100 الف قتيل قد ابعدوهم من أمام اعيننا الى الابد».

ولا يهم ان كان نسيم على حق ام لا في اختيارات قيادة بلاده، غير ان النفور الذي يبديه ابناء جيله من بعض الشخصيات التي عادت الى واجهة السلطة في الجزائر تثير مسألة تتجاوز التعيين والتنصيب تتمثل في الصراع القائم بين الجيلين (جيل الشباب والحكام) في طريقة ادارة البلاد. علما انه بعد نصف قرن تقريبا من استقلال الجزائر لا تزال السلطة فيها تتداول بين حفنة من المسؤولين المتشبثين بما يسمونه «الشرعية التاريخية».

وقال نسيم معلقا على هذه المسألة: «لما خرجنا للاقتراع قبل عامين، فصوتنا كشباب للرئيس بوتفليقة، ولم اصوت شخصيا له مع اصحابي في الحي لانه مجرد صديق للراحل بومدين، الذي لا اعرفه لعلمك، بل صوت له لانني لم اسمع عنه من قبل. فنحن لا نعرفه وكونه لم يشارك اولئك في الحكم، فحتما كان احسنهم» وكأن الشاب الذي لا يتجاوز عمره 26 عاما، يريد ان يوحي بان تصويته لبوتفليقة كان رسالة منه ومن شباب مثله لكي يتعزز التغيير وليس العدول عنه. واضاف موضحا «فكيف له (بوتفليقة) اليوم ان يأتي ليعيد من اخرجهم ضحايا اكتوبر من الباب ليعيدهم من النافذة؟». ان نبرة الأسى وفقدان الامل بين الشاب الناخب والحاكم المنتخب دليل على غياب استراتيجية التخاطب والتواصل بين الحاكم والمحكوم في الجزائر، حتى وان تعددت الخطابات، التي هي باستمرار في اتجاه واحد.

* الحلقة المقبلة بجاية: «سويسرا» الجزائر