لماذا لم ينتقم شارون من عملية تل أبيب؟

TT

أرييل شارون، الذي انتخبه الاسرائيليون رئيسا للوزراء، لاعتقادهم بانه سينتقم من الفلسطينيين بلا شفقة، اختار عدم الرد على مقتل عشرين شابا في تفجير انتحاري فلسطيني في مرقص ليلي بتل ابيب. فلماذا لم يرد شارون؟ ولماذا اعلن ياسر عرفات وقف اطلاق النار؟ الجواب يتلخص في اعتقاد شارون ان اسرائيل بعد عملية تل ابيب باتت تتمتع بموقف اخلاقي قوي في نظر المجتمع الدولي، فأحس بأهمية الحفاظ على هذا الموقف بدل الانزلاق الى موقف ضعيف اخلاقيا بشن هجوم ثأري آخر على الفلسطينيين. ولكن هل يأبه أرييل شارون حقا بالرأي العام العالمي؟ وما الذي يتوخاه منه؟ الواقع انه يتوخى امرين، احدهما شخصي، وثانيهما استراتيجي. اما الشخصي ـ صدق او لا تصدق ـ فيتلخص في ان شارون يكترث كثيرا بسمعته الشخصية، وقد سبق له ان جر مجلة «تايم» الى المحكمة لنشرها موضوعا حول افعاله في لبنان. اما الامر الاستراتيجي فيرجع الى طبيعة الحرب الاسرائيلية ـ الفلسطينية، فهي ليست حربا بين جيشين متقابلين، بل هي بين شعبين احدهما بزي عسكري والآخر بدونه، حرب بدون جبهة امامية او خلفية وبلا حدود. وهذا يعني ان ليس في وسع اسرائيل استخدام قوة حاسمة ضد الفلسطينيين، مثل الدبابات ومقاتلات F16، من دون ايقاع اصابات بين اعداد هائلة من المدنيين. ولا قدرة لاسرائيل على فعل ذلك بشكل متواصل من دون الاضرار بنسيجها الاخلاقي وبالتأييد الدولي لها، وهما امران استراتيجيان بالنسبة لاسرائيل في وقت يعتمد فيه اقتصادها على الاتحاد الاوروبي ومؤشر «نازداك»، وفي الوقت نفسه لا غنى لجيشها عن المساعدات والتقنية الاميركية.

يقول المنظر السياسي الاسرائيلي يارون ازراحي: «لقد تعلم شارون في بيروت ان استخدام قوة عسكرية ضاربة ضد المدنيين اضعف الموقف الاخلاقي الاسرائيلي ومعه التأييد الدولي لها، وهو امر يمكن ان يكون اكثر ضررا من الاف القنابل». وينطبق الامر نفسه على الفلسطينيين، اذ صحيح ان العمليات الانتحارية تروع الاسرائيليين.. ولكنها ترعب العالم ايضا. فمن ذا الذي يرغب في تأييد دولة مستقلة لمن يقدمون على هكذا عمليات؟ وبالنظر الى ضعفهم، فان الفلسطينيين لن يقوى موقفهم في المفاوضات الا اذا كان في جانبهم الرأي العام الاسرائيلي او الرأي العالم العالمي. ولا شك ان العمليات الانتحارية تضعف كلا الرأيين. ويحاجج ازراحي ان «الصواريخ البشرية لا تدمر ضحاياها فقط، ولكنها تدمر ايضا الشعوب والامم التي تطلقها».

الواقع ان هناك نوعا من القاسم المشترك بين المستوطنين الاسرائيليين ومنفذي العمليات الانتحارية من الفلسطينيين، وهو ان كلا منهما يدفع باتجاه الاستخدام الاكبر للقوة، ودونما اعتبار لعدم القدرة على التمييز بين المدنيين والجنود. لكن المعتدلين في الطرفين يقاومون ذلك لانهم يعلمون انه من جهة عسكرية لن يغير هذا الاسلوب شيئا، ولكنه من جهة دبلوماسية قد يقلب الامور نحو الاسوأ.

ان وقف اطلاق النار الاخير سينهار عند نقطة ما، ولكن المنطق الذي انطلق منه لن يتبدد بسهولة، وهذا هو الجانب الايجابي. اما السلبي فهو انه بينما يجد كل طرف نفسه عاجزا عن استخدام قوة حاسمة فانه لا قدرة لاي منهما على تقديم تنازلات حاسمة ايضا. فعرفات لا يستطيع القبول بالمستوطنات على حالها، وفي المقابل لا يملك شارون القدرة او الارادة لتفكيكها. واذا كان شارون لا يستطيع القبول بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين الى اسرائيل، فان عرفات لا يملك سلطة او ارادة التنازل عن هذا المطلب. في المقابل فان العالم يرفض فكرة القتل الاعمى على الجانبين، ولكنه لن يتدخل بصورة حاسمة لتسوية النزاع لان ذلك يستتبع كلفة سياسية لا استعداد لادارة بوش او اوروبا على تحملها في الوقت الراهن. هذا يعني انه ان كان عقد التسعينات مرحلة محاولة صناعة السلام، فان هذا العقد ربما يكون عقد اتفاقات وقف اطلاق النار، اقل ما نتوقعه خلاله هو وقف اطلاق النار.. واقصى ما نتوقعه وقف اطلاق النار ايضا!

*كاتب اميركي ـ خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ «الشرق الأوسط»