الفلسطينيون.. وعقدة الاختباء وراء الحقيقة

TT

يعاني شعبنا الفلسطيني، شأنه شأن العرب جميعا، من عقدة الاختباء وراء الحقيقة، وعدم البوح بما في النفس. وهذه العقدة ليست وليدة نقص في الشخصية أو عجزاً عن المعرفة، بل هي عقدة مكابرة ناتجة عن اعتزاز بالنفس يبدو في بعض الاحيان زائداً عن اللزوم.

فقد كان العرب يعرفون بما يجري منذ أيام العثمانيين وزعامة السلطان عبد الحميد بن عبد المجيد الذي بدأ النفوذ الصهيوني في أيام حكمه يتجه نحو اقامة دولة يهودية في فلسطين.

وليس من شك ان دافع السلطان عبد الحميد كان كبرياؤه وشهامته الاسلامية.. والا لم يكن ليرفض 150 مليون ليرة انجليزية وهب سنة 1909 أو قبل ذلك، ثمنا لتوطين اليهود في فلسطين التي ليست بلده ولا مسقط أجداده.

الأمر نفسه وقع مع العرب، فقد كانوا يدركون ان بيان بالفور (1917) أقوى من احتجاجهم ورفضهم، لكنهم لم يتمكنوا من الغائه فسكتوا عنه وهادنوه.

في حرب 1948 كان العرب مدينين لبريطانيا بالشيء الكثير وطالما هددت لندن بقطع المساعدة المالية عن الاردن الذي كان ملكه قائدا لجيش التحرير، وطالما هددت بمنع تصدير السلاح الى مصر والعراق والأردن... وادرك العرب انهم عاجزون عن الاستمرار في القتال، فأوقفوا الحروب الأولى والثانية والثالثة ضد اسرائيل، عام 1948 بعد أن خسروها عسكريا، وبعد ان تمكن اليهود من رفع مساحة الأرض الممنوحة لهم بموجب قرار التقسيم (1947) من 14.400 كيلومتر مربع الى 20.700 كيلومتر مربع منها عشرات الكيلومترات المربعة احتلتها بعد 1948، وقبل 1953 لا سيما على الجبهة السورية.

ومرة أخرى ىسكت العرب وهادنوا مرغمين..

في حرب 1967 كان العرب يعرفون تماما قدرة اسرائيل العسكرية من جهة ويعرفون اضافة الى ذلك موقع اسرائيل السياسي والاقتصادي في العالم، وقد قرأنا الكثير من الشهادات على لسان الرئيس جمال عبد الناصر يعلن فيها صراحة ان اسرائيل قوية بحيث لا يمكن البدء معها بحرب رابحة، ومع ذلك، ورغم ذلك وقف عبد الناصر ليعلن ان العرب ينتظرون اسرائيل كي يردوا لها الصاع صاعين.

ومن المحتمل ان يكون كبرياء عبد الناصر، أو خضوعه للضغط الشعبي الذي لم يكن يعرف حقيقة الاوضاع بيننا وبين اسرائيل، وهما السببان الاهم في المجازفة التي دخل بها عبد الناصر والتي ادت الى الكارثة والقرار 242، ومرة اخرى: سكت العرب وهادنوا.

الأمر نفسه حدث في قرارات الخرطوم التي حددت باجماع عربي كامل ثلاث لاءات شهيرة هي: «لا للاعتراف، لا للتفاوض، لا للصلح» واذا نحن واجهنا هذه اللاءات مواجهة قانونية وسياسية فسوف نجد انها انطلقت من خطأ، فبنيت على خطأ، وانتهت الى لا شيء، والخطأ القانوني هو ان العرب اعترفوا بالقرار 242 الذي ينص على: «نعم للاعتراف، نعم للتفاوض، نعم للصلح»، وكان عليهم في قمة 1967 في الخرطوم، ان يعلنوا رفضهم للقرار 242 كي يجوز لهم اطلاق اللاءات الثلاث، لكن رفض القرار كان سيترتب بالقوة عليه امران، الأول: مخالفة غير مقبولة لقرارات دولية قد تصبح ملزمة. والثاني: اطلاق حرية اسرائيل في استئناف الحرب التي لم تكن لمصلحة العرب. فسكتوا وهادنوا.

الأمر نفسه حدث في اعقاب حرب 1973 وفي القمم العربية اللاحقة. ففي قمة الجزائر من 26 الى 28/11/1973 قرر العرب في بند واضح ما يلي (تحت رقم 6): «تفويض دولتي المواجهة (مصر وسورية) بعدم تفويت أي فرصة للتوصل الى حل عادل ودائم..» الى آخره، أي انه استبعد التفكير في حرب ثأرية جديدة.

وفي قمة الرباط من 26 الى 30/10/1974 قرر العرب جعل منظمة التحرير الممثل الوحيد الشرعي للشعب الفلسطيني، أي ان القمة تركت لمنظمة التحرير (وليس للدول العربية) حق فعل ما تراه مناسبا لحل قضيتها. وتحت هذا البند بالذات دخلت منظمة التحرير الى أوسلو وفاوضت وما زالت تفاوض. ومنذ ذلك التاريخ، درجت القمم العربية على التأكيد على أمرين، الأول: ضرورة حل النزاع سلميا. والثاني: اطلاق يد منظمة التحرير بمصير فلسطين والفلسطينيين، وقبل 1973 كانت القرارات العربية (منذ 1945 تاريخ انشاء الجامعة العربية) تجعل القضية الفلسطينية شأنا عربيا عاما، وليس شأنا فلسطينيا فقط، أي: انهم سكتوا وهادنوا.

في مؤتمر مدريد (1991) دخل الفلسطينيون في لعبة الشد والجذب ومن الوجهة القانونية الدولية، فإن منظمة التحرير جلست وتفاوضت مع اسرائيل والعكس صحيح ايضا، وبذلك لم يعد قانونيا ان يلغي الفلسطينيون وجود اسرائيل ويلغي الاسرائيليون وجود شعب فلسطين، على رغم ان الفلسطينيين دخلوا الى مدريد في ثياب اردنية.

بعد مدريد، لم يعد أمام منظمة التحرير سوى ان تلعب ورقتها بيدها، فما دام انها جلست في مدريد، وما دام انها تملك قرارا عربيا بأنها الممثل الرسمي والوحيد للشعب الفلسطيني، فلماذا تتكل على غيرها؟

وهكذا دخل المفاوض الفلسطيني الى غرفة واحدة مع الاسرائيليين، ويبدو أن مجرد الجلوس معا، والكلام بدون رصاص، جعلا المفاوض الفلسطيني يدير اذنه الصماء لبعض النصائح والوقائع المؤكدة من هنا وهناك. وفي وقت من الأوقات، بدا المفاوض الفلسطيني وكأنه «احتل عكا» كما يقول المثل الدارج، بل انه كان يوحي بما لا يقبل الشك ان الدولة الفلسطينية قائمة والشعب عائد، والدنيا بألف خير، ولم يكن يفطن لما يدبره له الجانب الاسرائيلي كما لم يعر ما يكفي من الانتباه (في السنوات الأولى بعد 1991) لما يمكن ان يكون عليه الموقف العربي.

ـ فمصر كانت تبارك وتنصح ولكن بقليل من الجهد في السنوات الأولى التي انفرد فيها الفلسطينيون بالمحادثات والاجابات، ولم تكن مصر راضية.. ـ وسورية كانت ضد المحادثات حتى العظم..

ـ ولبنان ضد، وعرب الخليج بين ضد ولا مبال.

وعندما اندلعت الانتفاضة الثانية (سبتمبر 2000) وجد المفاوض الفلسطيني ان بينه وبين العرب حائطا مسدودا. فالعواطف العربية متدفقة، لكن الحقيقة ان العرب رفعوا يدهم الكريمة (المال والضغط السياسي والعسكري) عن المنظمة. وقد كان في هذا الموقف ما يؤكد ان ثمة عتبا عربيا على فلسطين، لكن الفلسطينيين لم يأخذوا هذا العتب مأخذ الجد، فوجدوا انفسهم وحدهم في مواجهة باراك، ثم شارون وبيريس. وهذه المرة انفرد الفلسطينيون بالسكوت.. والمهادنة.

واذا كان لنا ان نتساءل عن السبب في ذلك، ونبحث عن العلاج فلا بد ان نذكر ما يلي:

أولا: انه من الخطأ البالغ ان يظن الفلسطينيون انهم يستطيعون ان يكونوا وحدهم في الساحة، أو ان في مقدورهم ان يقلعوا شوكهم بأيديهم، فمن حسن الطالع أو ربما من سوء الحظ، او ربما لسبب اخر ان المسألة الفلسطينية شأن عربي بمقدار 70 في المائة وفلسطين بمقدار 30 في المائة وكلما حاول الفلسطينيون ان يعطوا لانفسهم السبعين وللعرب الثلاثين يسقطون في مشاكل لا مبرر لها.

ثانيا: صحيح ان فلسطين هي الرقم الصعب في معادلة الشرق الأوسط لكنها ليست الرقم الأصعب.

ـ فهناك سورية التي تشكل ثلاثة أرباع الرقمين: الصعب والأصعب.

ـ وهناك العرب الذين لا شيء يجبرهم على ترك سورية واللحاق بفلسطين أو ترك فلسطين واللحاق بسورية وغيرها.

ـ وهنا الامكانات التي تسمح بقيام الثورة أو بالانتفاضة، أو بحرب التحرير.

فالفلسطينيون يعيشون في كانتون الحكم الذاتي من دون سلاح، ومن دون موارد، ومن دون مال، ومن دون رجال مال وأعمال، ومن دون حدود مفتوحة على العرب، فكيف يمكن لشباب الانتفاضة القتال اذا كان المقاتل يقاتل في النهار، فيستشهد ويذهب الى الجنة، أو يعود حيا الى منزله فلا يجد نعمة الخبز، واحيانا لا يجد البيت.

ـ والشارع الفلسطيني لا يتوقف عن انتقاد المفاوض الفلسطيني منذ اوسلو حتى اليوم، لأنه قدم لاسرائيل خدمات وارباحا سياسية لا يجوز ان يعطيها.

ـ فهو اعترف بدولة اسرائيل ولم تعترف اسرائيل له بالدولة.

ـ وهو نبذ العنف ورفض المقاومة الفلسطينية وندد بالارهاب بناء على شروط اسرائيل وأميركا، وضرورة ان يأخذ بالمقابل رفضا اميركيا للارهاب الاسرائيلي.

ـ وهو اخذ وعدا بالمال من اميركا والدول المانحة، لكن المال لم يأت ولكي تبرر اميركا تراجعها عن الوعد، اتهمت المسؤولين الفلسطينيين بأنهم يسرقون المال ولا يقدمونه لخدمة الشعب ورفع مستوى معيشته.

والشارع الفلسطيني لا يعاتب لمجرد العتاب، ولا ينتقد كي يتشفى بالمفاوض الفلسطيني، بل على العكس من ذلك تماما فليس هناك في أي دولة في العالم شعب متعلق برئيسه كالشعب الفلسطيني والرئيس عرفات بالبرهان الذي لا يقبل الشك. فالناس تموت وتقاتل وهي تعلم ان خزانة المال فارغة، والمطبخ خال من الضروريات، والتضحيات لا حدود معروفة لها.

لكن الشارع الفلسطيني الذي يؤكد ان مفاوضات اوسلو اعطت اسرائيل الشرعية التي ليس اقوى منها شرعية، وهي اعتراف اصحاب فلسطين لها بالوجود والاستقلال والسيادة. ان هذا الشارع يريد من المفاوض الفلسطيني ان يخوض حربه الدبلوماسية والسياسية والتفاوضية من منطلقات واضحة وغير قابلة للتراجع.

فنحن نريد الحرية، ولا نقبل ان نساوم فيها. ونحن نريد حق العودة، ولا نساوم فيه. ونريد الدولة.. ولا نساوم حولها مهما طال الزمن. حسنا، اذا كانت هذه هي المسلمات التي لا تراجع عنها.. يصبح من غير المقبول ان يضعها المفاوض على طاولة البحث وكأنها امور متنازع عليها او يمكن المهادنة بشأنها. اما اذا كان المفاوض الفلسطيني يملك من المعلومات والوقائع والحقائق ما يجعل هذه المسلمات مستحيلة، او قابلة للتفاوض، فمن واجبه ان يبلغ شعبه بذلك، ثم يضع شروطه وراء ظهره، ويفاوض حول ما يمكن التفاوض حوله. وبهذا فقط تصبح الانتفاضة واضحة وقوية ومستندة الى هدف.. أو تترك امرها ومصيرها لله.