غياب القدوة

TT

«جميع الكائنات، وبالتالي جميع الاجناس، يسري بعضها في بعض. فكل حيوان هو انسان قل ذلك او كثر، وكل معدن هو الى حد ما نبات، وكل نبات هو الى حد ما حيوان، وليس في الطبيعة شيء معين على وجه الدقة، فكل شيء هو الى حد ما ماء او هواء او نار». (ديدور: حلم دالامبير).

(1) حين كنت في بريطانيا لمدة خمس سنوات كنت ادرك عشرات السلبيات المحيطة بي التي تمسني وتؤثر في امن حياتي واستقرارها كفرد مسلم في مجتمع غربي، لكن كانت في نفس الوقت ايجابيات ذات صدى عال في هيئة انجازات وابداعات واختراعات، من شأنها ان تشير الى مستوى حضارة المجتمع واستمرارية تحضره بالرغم من فواتير اخلاقية كان المجتمع مضطرا لدفعها على هامش ذلك، ولكني كنت اعلم عن يقين ان في بريطانيا مثلا لو قام الموظف العادي بانجاز كبير يحصل على ترقية. وفي احدى الحالات في منطقتي التي اسكنها، برمنجهام، حين توصل الموظف العادي الخجول والمنعزل الى حل الكتروني لمعضلة قديمة، حقق ارباحا هائلة للشركة التي يعمل بها، فانتقل من كونه نكرة ومجرد موظف مجهول الى رئيس قسم، لقد استحق الترقية لأنه احدث تغييرا بعقله وجهده واستطاع ان يتميز. تعلمت من شواهد عديدة مماثلة اثناء دراستي العليا هناك ان الانسان يقاس بكفاءته العلمية وبانجازه ومستوى وعيه وفكره، ولذلك نجد التنافس الشريف العلمي في مجال الابتكار والابداع في التكنولوجيا والاتصالات وغيرها.

(2) اما في مجتمعاتنا فالامر يختلف، لأن المقياس مغاير فلا قيمة لفكر الانسان او لمستواه الثقافي او لابداعه واخلاصه للحق، بل نجد ان المعايير سطحية للغاية وترتبط بالمظهر والعائلة ونوع البذلة والسيارة وماركة النظارة ومستوى العلاقات الاجتماعية والمعارف وغيرها، بل يتطور الامر الى ان الفاقد للأخلاق وللضمير والغبي او الجاهل احيانا يصل الى منصب اعلى بكثير من مؤهلاته، وحتى ابعد من احلامه. لماذا؟ لأن الامور تدار هكذا في مجتمعاتنا، ولأننا على خارطة الحضارة «متخلفون اخلاقيا».

كنت أفاجأ كثيرا بمقدار المرارة في كلام طلابي وانتقاداتهم حين يرددون هذا الكلام في محاضرة الاخلاق، فيقول احدهم: ولكن هذا كلام غير واقعي وبعيد عن الواقع.. ففي المجتمع هناك المثال الفلاني، انسان كلنا نعرف انه حرامي وبدل ان يحاكم ويعاقب يرقّى ويحصل على منصب اعلى من السابق، وأخرى تتسلم ادارة ورئاسة مؤسسة هامة لأن زوجها من اكبر تجار البلد.. وعشرات الامثلة. وألمس الاحباط الشديد لدى الطلبة وكأنهم يقولون لي أي اخلاق وأي مبادئ اذا كانت تسير الامور في الممرات الخلفية.

(3) لقد بدأ يغيب مفهوم القدوة في مجتمعاتنا ولم يعد باستطاعة الشاب ان يرى من يقدم له قدوة حية نابضة. واعطي هنا مثالا شخصيا، فقد اردت خوض مجال الدراسات العليا لأني اردت ان اكون مثل استاذي الذي كان مثالا للأخلاق، وكان فيلسوفا وانسانيا بكل المعاني الجميلة، لدرجة انه اقنعني من دون ان يدري بأن أكون مثله.. او احاول. اما اليوم فبعض الاساتذة يتسبب في صدمات نفسية ومرضية للطلبة بسبب الغرور والامراض النفسية وقلة الذوق والعجز عن احترام الآخر وفقدان الحس بالقيم. ومن الامثلة التي شاهدتها بأم عينيّ وحصلت أمامي ولم تُنقل لي، قال الاستاذ للطالبة ان جسمها جميل ويصبح أجمل كلما يراها، وسألها إن كانت تمارس السباحة، وكأن وظيفته التعليمية تنحصر في متابعة تطور اجسام الطالبات وتدهورها. وآخر نهر طالبة سيصادف موعد ولادتها موعد الامتحان النهائي عنده، معلقا: وهل كان من الضروري ان تنامي مع زوجك في هذا الموعد؟! وآخر نادى طالبة معروفة بحماستها لقضايا المرأة على مستوى المجتمع وقال ساخرا منها انها تحتاج الى طبيب نفسي. وهكذا عشرات الامثلة التي يخجل الانسان من طرحها لكنها تَحْدث، مما يعيدنا الى قضية القدوة وضياعها، ومن ثم عدم قدرة الشباب على الامساك بنموذج حي يُقتدى به فيعملون على ان يكون هو تصورهم للمستقبل.

(4) كلما دخلت كافتيريا الاساتذة ورأيت المفكر خلدون النقيب بمظهره البسيط واسلوبه العفوي والمتواضع في التعامل مع الجميع، تساءلت ألا يجب ان يكون هذا الرجل وامثاله في مكان ما في وزارة للفكر وللثقافة والابداع يعمل على نشر الوعي والعلم والحضارة؟ بدل ذلك، هناك من يشغل المنصب وهو ابعد ما يكون عن الفكر والثقافة، بينما خلدون النقيب مجرد.. مدرس!! واتذكر استاذي في جامعة برمنجهام، كان رئىسا لقسم الفلسفة ومليونيرا بسبب عائدات كتبه التي حققت مبيعاتها آلاف النسخ، كان يأتي على دراجته القديمة، ببذلة منهكة من كثرة الاستخدام، يجلس معنا على العشب في الحديقة ليناقشنا حول آخر الأحداث وقضايا الساعة. وحين جئت اول مرة للجامعة بسيارة اجرة، قال غاضبا: إن جئت غدا في سيارة اجرة لا اريد ان اراك ولن تدخلي مكتبي؟

* كاتبة كويتية Email: [email protected]