«الشرق الأوسط» في منطقة القبائل بالجزائر (2): بجاية.. سويسرا الجزائر تضطرب وتبحث عمن ينقذها من الانتحار

TT

في حين كان الركاب يستمتعون بالخدمة والمنظر الجميل للمضيفات ورونقهن، حاولت من جهتي، ان اروي تعطشي، ولو لبضع دقائق، من تأمل تلك المناظر الخلابة لسلسلة جبال الاطلس، التي كانت تنبسط تضاريسها ووديانها من تحتنا. وكان انشغالي وتساؤلي منصبا في التفكير في حال سكانها الذين رغم انتشار داء الارهاب وذعر جماعاته في اراضيهم لم يبرحوها وظلوا متشبثين بها.

وشاءت الصدف ان يكون المسافر الجالس الى جواري، استاذا في الاقتصاد من سكان بجاية، اغتنمت الفرصة لمعرفة طرحه في ما يجري في مدينته وبلاده، فقال، من دون ان افصح له عن مهنتي «تلاحظين ان ما تتناقله الصحف والتلفزيونات عن الاحداث تنقصه النظرة المتبصرة في الاسباب الفعلية، التي اعزوها الى ديناميكية التغيير التي افرزها النظام الدولي الجديد ومؤسساته، وخلقت ضغطا جديدا على مجتمعاتنا «التقليدية»، كما هو حال الجزائر، اذ نحن مقبلون على فترة اكثر حساسية من التي سبقت، اذ اننا مطالبون بالانضمام الى منظمة التجارة الدولية والفضاء التجاري الاوروبي المتوسطي، أي تحديات تهدد ثقافة المجتمع التقليدية بكافة جوانبها حتى تلك المتعلقة بنمط الانتاج».

وبالنسبة للاستاذ الجامعي، فان التغيير المفروض من الديناميكية الدولية لا يتزامن مع تطور العقليات وممارسات الادارات المختلفة لتنفيذ المرحلة الانتقالية بطريقة سلسة لا تهدد تماسك ووحدة المجتمع، كما تفعل الآن.

وما دام الحديث عن المجتمع التقليدي وثقافته، سألت محدثي عن ظاهرة عودة اعيان المدن والقرى، كما هو حال الاعراش في تيزي وزو لمحاولة فرض وجودهم كسلطة تفاوضية لها كلمتها في اعادة احلال الهدوء في المنطقة. واقع جديد ابرزته الاحداث الاخيرة يهدد مكتسبات 40 سنة من الاستقلال، ومستقبل المؤسسات الدستورية القائمة في المنطقة، فقال: «ليس سكان المنطقة وحدهم الذين في غياب تنظيمات حزبية او ثقافية فاعلة ناطقة باسمهم لجأوا الى الاساليب التي عملت بها الجزائر خلال الاستعمار، بل عليك رؤية حال تسيير الدولة بأسرها التي اصبحت ترتكز على علاقات القربى والجهوية وغير ذلك من الممارسات وطرق التسيير التي تتجه في الطريق المعاكس لما يتطلبه النظام العالمي الجديد من عمل مؤسساتي يعتمد على نظم عالمية متعارف عليها».

وما أراد الاستاذ ان يقوله، حسب شهادات المراقبين هنا، ان بلاده تدار حاليا تقريبا بمنطق «القرية الكبيرة»، وليس بالمنظور المؤسساتي المتعارف عليه دوليا، الذي يحترم استقلالية المؤسسات الدستورية الجمهورية للدولة، كاستقلالية القضاء. هذا القطاع، الذي رغم لجنة الاصلاح التي نصبت الصيف الماضي لاقتراح الحلول الشافية له، الا انه لا يزال يتخبط في ازمة لا آخر لها.

مغادرة المطار اغتنمت فرصة الاستمرار في الحديث مع مرافقي لكي اتسلل خارج المطار، بعيدا عن انظار «الحرس» الشخصي الذي كان في انتظاري. ورغم لطف وخفة دم الشبان المكلفين بمرافقتي «كصحافية اجنبية»، اردت عند اول فرصة، استرجاع الاحساس بحريتي في الحركة والتمتع بالمناظر الخلابة للمدينة الساحلية من دون ان يكون هناك من يفتح لي الطريق، ويخلق حالة هلع من حولي لا تخدم مهمتي. وعلى كلٍ، فان تجربة ملاحقتي ومراقبتي لم تكن سيئة جدا، فلولاها لما ادركت فعلا قيمة ما املك (وفقدته لايام).. «حريتي». ويجب الاعتراف ان مغادرة مطار عاصمة دولة الحماديين، كان سهلا، لدرجة تساءلت فيها، لما لا يوجد الا القليل فقط من النظام والتنظيم اللذين يميزانه في مطار العاصمة هواري بومدين، لاسيما انه واجهة البلاد لأي مسافر يدخلها أول مرة.

وهكذا، اتجهت برفقة السائق صوب وسط المدينة، وكانت مشاعري تتأرجح بين تخوف مكبوت وراحة من تخلصي اخيرا، ممن كانوا مطالبون بـ«حمايتي».. لكنها راحة لم تكتمل، اذ ما هي إلا ثوان فقط داخل السيارة، ومن هبة الجبال الشامخة التي تعلو امامي والبحر المنبسط من خلفي، وجدت نفسي مشتاقة لتلك «الحماية»، واعاتب نفسي على تفضيلي الاستغناء عنها... لكن طيبة السائق التي لمستها من نبرة صوته، جعلتني اتحمل «طول» الطريق، التي لم تستغرق سوى 10 دقائق. السائق البيجاوي لم يتوقف خلالها عن الحديث، لكنني لا اتذكر من كلامه الا القليل، كون احاسيسي كانت في حالة استنفار قصوى تتأهب لأي شيء، لكن، الى اين المفر؟

وما استوقفني، وشد انتباهي وبقي راسخا من كلام السائق، هو واقعيته في التعليق على مطلب المتظاهرين، الذين رفعوا الشعارات المطالبة للدولة بالاعتراف باللغة الامازيغية كلغة وطنية، اذ قال «الاعتراف بالأمازيغية مسار صعب ومعقد وليس التكسير والمظاهرات التي ستأتي بها غدا».

فحملت معي تلك الكلمات، واسرعت للاتصال بأحد المصادر الذي يقطن في الولاية، ولحسن حظي وجدته في المدينة، لان رحلتي الى بجاية، اتت من دون سابق تحضير، واخذت قرار الانتقال اليها الليلة التي قبلها، اذ كانت وجهتي الاولى، الانتقال الى ولاية تيزي وزو، لكن لاسباب قاهرة تعذر الوصول اليها. طالع «الشرق الأوسط» (11ـ 6 ـ2001).

فشل أحزاب المنطقة للوهلة الاولى، بدت بجاية طبيعية في حركتها، وبحثت عن علامات الفقر والحرمان فيها، التي دفعت بسكانها لحرق المباني العمومية وتنظيم المسيرات وإرباك استقرارها، فلم اجد لها اثرا. على العكس، كانت المدينة تبدو نظيفة وتخلو من المتسولين والمشردين الذين لا تخلو منهم شوارع العاصمة. وهكذا، ذهبت مع مصدري، في زيارة للمدينة التي اتجول فيها للمرة الاولى، ولو انني مررت منها في السابق مرارا في طريقي الى ولاية جيجل الواقعة شرقها. وكانت اولى محطاتي، مقابلة المسؤول منذ اسابيع على تنظيم المسيرات والمظاهرات في بلديات الولاية المدعو بدر الدين جحنين.

وقال جحنين، وهو استاذ متفرغ لرئاسة نقابة العمال، معلقا على استغرابي من غياب علامات القهر والحرمان في مدينة تشكو منها: «لا تخدعك هذه المظاهر، لان نسبة البطالة في بجاية تتجاوز 40 في المائة من اليد العاملة، ولولا التضامن والروابط القوية بين الاهالي والجيران وابناء الحي لرأيت الناس يموتون جوعا وحرقة في الشوارع». واردف «بجاية تعتمد على قطاع اقتصادي من اقدم القطاعات وهو النسيج، الذي لم يعد باستطاعته المنافسة في ظل غياب سياسات حمائية من الحكومة للمنتوج المحلي. كما لدينا مشكلة الإعمار، التي رغم ذروتها خلال السنوات الماضية الا ان اسعارها تبقى بعيدة عن متناول عامة الناس والشباب».

وللعلم فان الاضطرابات والمواجهات الدامية وصلت الى بجاية قبل ايام فقط من اغتيال الشاب مسينيسا قرماح في ولاية تيزي وزو. وحسب جحنين فان عناصر الدرك الوطني تعرضت لأستاذ رياضة لدى مرافقته تلاميذه بعد انتهائهم من التدريب على بعد امتار من مدرستهم الواقعة ببلدية اميزور (على بعد 20 كلم من وسط الولاية)، اذ ضربوهم ضربا مبرحا. وكانت هذه الحادثة خلف اطلاق شرارة الاضطرابات في الولاية، اذ هاجم أهالي التلاميذ مقر الدرك وقاموا بمحاصرته، في حين كانت المواجهات تزداد حدة في بلديات تيزي وزو وبورج بوعريريج. وناهز عدد الضحايا في القبائل الصغرى وحدها 20 قتيلا، اذ ان 18 منهم قتلوا بالرصاص، اضافة الى اثنين من الكبار في السن توفيا خنقا بالقنابل المسيلة للدموع.

وحول تنظيم المجتمع المدني ورد فعله، لما اصبح يعرف بتجاوزات قوات الدرك في المنطقة، قال جحنين «بعدها تقدمت الجامعة بارسال نداء للمجتمع المدني وللنقابيين، اي لنقابة الاساتذة الجامعيين للالتفاف وتوحيد الصفوف»، مضيفا انه «من ثم اعلنت جميع لجان الاحياء والقرى ونقابات المؤسسات الأخرى كالصحة والاتصالات والعمال وغيرها مساهمتها في المبادرة، التي اصبحت تجمع بين رابطة اساتذة الولاية والمجتمع المدني». مما اعطى الانطلاقة لاربع مسيرات، سمحت سلطات الولاية بتنظيم اثنتين منها فقط. وهنا، برزت احدى المعطيات الجديدة بالنسبة للسلطة والاحزاب النافذة في المنطقة (حزبي حسين آيت أحمد وسعيد سعدي)، المطالبين هما ايضا بمراجعة اوراقهما واعادة تقدير قاعدتيهما، اذ كانت مقرات هذه الاحزاب المستهدف الاول من قبل المتظاهرين الغاضبين. وعلق جحنين: «الاحزاب لا علاقة لها بحركة التنسيق والتنظيم التي قمنا بها، فالمجتمع المدني ينظم نفسه بنفسه»، مردفا «أضيفي الى ذلك، اننا لا نريد مشاركتهما الا عبر مشاركة افراد مستقلين ليس اكثر». وعند سؤاله عما اذا قام مع زملائه برفع دعاوى قضائية ضد الجهات المتهمة بالتجاوزات، قال: «لم نقم بملاحقات قضائية بل اعلنا معركة سياسية، نطالب فيها بالمحاكمة المدنية لكل القتلة والمسؤولين عنهم او الموجودين خلفهم. ولجنتنا اليوم تحمل اسم اللجنة الشعبية لولاية بجاية، وهي اول مرة يتم فيها التوفيق بين مسألة المطالبة بالاعتراف بالأمازيغية والمسائل الاجتماعية». ومن مظاهر الصعوبات الاجتماعية التي عرفت بها بجاية عن غيرها من المدن الجزائرية ارتفاع نسب الانتحار فيها. وهكذا، اصبحت بـ«ساحة غيدون» المطلة على البحر والواقعة في احد احياء مرتفعات المدينة شاهدا على الانتحار والمنتحرين. وقبل الانطلاق لزيارة هذه الساحة، التي اصبحت تعرف بـ«ساحة الموت» ايضا بين الناس، اذ يلجأ اليها الشبان والكهلة، الرجال والنساء على اختلاف اعمارهم، ليلقوا بأنفسهم من فوق اسوارها. فهي ساحة جميلة مطلة على البحر ينشرح صدر الجالس في احدى قاعات الشاي المنتشرة فيها. ومهما قلت، فليس بامكان احد تصور حالة ذلك الذي يفضل وضع حد لحياته والتخلي عن النور الذي يشع من حوله لولا شدة قتامة الحياة في عينه.

وحسب شهادات مالكي قاعات الشاي في الساحة، فلم يعد يثيرهم الحديث عن هؤلاء المنتحرين، اذ كما قال احدهم «تعودنا، ولا نقوم الا بالترحم عليهم». وقال آخر: الانتحار موجود في كل مكان حتى في الاقتصادات المتطورة، لكن عندنا فهو لأسباب غالبا ما تتعلق بصعوبات اجتماعية واقتصادية كالمطلقات اللواتي لا يجدن مأوى لهن بعد الطلاق، او اولئك الشبان الذين يقعون في الخطيئة او عمال سرحوا من اعمالهم، وهم كثيرون».

ودعت محدثي لأستمر في اكتشاف المدينة والبحث عن الاسباب القاهرة، التي بامكانها ان تثير الغضب الذي تناقلته وكالات الانباء والتلفزيونات وشغل الصغير والكبير داخل الجزائر.

وليس ببعيد عن اطراف المدينة، وجدت ردا على سؤالي، حين مرت السيارة التي كانت تنقلني امام مصنع للنسيج، كان عدد من عماله جالسين عند مدخله وكأنهم يقضون استراحتهم. فلم يكن هناك ما يستدعي القلق، لكن اللافتات التي وضعت على الشبابيك والاسوار المحيطة بالمصنع جذبتني، كونها تقول ببساطة «نحن في اضراب»، واخرى «لم نقبض اجورنا منذ 8 اشهر»! فطلبت من مرافقي ان نتجه صوبهم، وخلال دقائق وحين اخبرتهم بأنني صحافية راح الجميع يعربون عن المأساة التي يعيشونها مع الشركة القابضة المسؤولة عن القطاع. وقال احدهم بغضب «انها المسؤولة عن مأساتنا، ولم تدفع اجورنا منذ 8 اشهر». واضاف احدهم: ان عدد عمال المؤسسة 700 وكل واحد منهم لديه عائلة لا يقل عدد افرادها عن 7 افراد (متوسط عدد افراد الاسرة الجزائرية)، الامر الذي يجعل الافواه المعلقة بقرار وقف الاجر لا تقل عن 5000 شخص. واشكالية الشركات التي تريد الحكومة تخصيصها، كما اتوقع، هي حال شركة النسيج في بجاية، فهي لم تقبل على تخصيصها ولم تبعها ولا حتى اغلقت ابوابها، فتركت العمال معلقين، فلا هي دفعت اجورهم ولا سرحتهم.

وقال ناطق رسمي عن العمال في عين المكان «اذا خرج اطفالنا الى الشوارع المرة السابقة، فهذه المرة سنكون نحن (الاولياء)، واذا خرجنا فلن نكتفي بالتكسير». وكانت لهجة التهديد واضحة عند المتحدث الذي كان ينتظر لتنفيذ تهديده نتائج المحادثات التي تجري بين المسؤولين في الشركة القابضة ورئيس اتحاد العمال الجزائريين في العاصمة.

الإرهاب لا أرض له هنا وللعلم، فان مدينة بجاية، كانت محط انظار الجزائريين، حتى قبل الاحداث الدامية، لتحولها تدريجيا خلال السنوات الماضية الى بؤرة «للفساد». وفي الواقع، بعض سكان المدينة يحتجون على تسمية الظواهر الجديدة التي برزت في مدينتهم وتؤثر على حياتهم بأنها فساد، بل يعتبرونها تطورا في نمط حياة سكان مدينتهم، الذين يرون انفسهم اكثر تسامحا وتقبلا للاختلاف، عن غيرهم من سكان البلاد. واول، ربما، هذه المظاهر التي يختلف الطرفان على تسجيلها في خانة «الانفتاح الاجتماعي» او «الانحلال الاخلاقي»، نجد هناك العدد الهائل والمثير لمحلات بيع الخمور والحانات، في وقت عملت فيه غيرها عبر البلاد على غلق ابوابها نظرا لضغط الحركة الاصولية عليها. وللعلم فان الخمور المستهلكة تصنع محليا، ولا يحتاج التاجر الى استيرادها من الخارج، خصوصا ان جودتها، بحسب شهادات رواد هذه المحلات، لا يعلى عليها. وقال بيجاوي (شاب من المنطقة) معلقا على الظاهرة: «لقد اوشك عدد محلات الخمور ان يفوق عدد بيوت المدينة»، وهذا رغم اسعارها، التي ليست في متناول الجميع.

هذا المشروب الكحولي، الذي زاد استهلاكه المفرط من قبل العاطلين عن العمل والمسرحين وغيرهم في تفاقم المشاكل وتدهور اوضاع العائلات.

من جهة اخرى، مشاكل بجاية كما تبدو للمتجول فيها، ذات طابع آخر يختلف عن ذلك الذي تعاني منه غيرها من مدن البلاد، والمرتكز اساسا على الضائقة الامنية نظرا لتفشي الارهاب.

ويعترف سكان بجاية بفخر واعتزاز، بأن الارهاب لا وجود له بينهم، وان أمنهم لم يكن محل قلقهم خلال السنوات الماضية، بل على العكس، كانت بجاية «جنة آمنة»، مما جعلها مقصدا ومفرا للكثير من المصطافين والسياح من ابناء الجالية المهاجرة في فرنسا تحديدا. وعن هذا قال محند ارزقي معلقا «ان الارهاب لم يجد ارضا له عندنا، فهؤلاء المرتزقة الذين يقتلون الشعب ليست لهم قاعدة خلفية في المنطقة، من منطلق نشاط الحركة الثقافية البربرية فيها، التي ناضلت منذ زمن بعيد من اجل الهوية واستقلالية الفكر، مما جعلنا في مأمن من التطرف الاصولي». واضاف «الناس هنا، ترعرعوا وشبوا على مبادئ التعددية والديمقراطية التي ليست جديدة علينا».

وسبق لشاب في العاصمة، قضى الاشهر الاولى من خدمته الوطنية في بجاية، ان قال لي: «أتدرين ان هؤلاء (سكان بجاية) لا يعرفون ما معنى الارهاب، فقد قضيت اشهرا هناك ورأيت نمط حياتهم، اذ رأيتهم لا يبالون بأن هناك اطفالا ورجالا ونساء وجنودا يغتالون على بعد كيلومترات من ولايتهم، وهم لا يدرون». واردف «أتدرين ما كانوا يقولون لنا حين كنا نخرج في فسحة داخل المدينة؟ يقولون: نحن هنا في سويسرا». وتابع بلهجة غاضبة، معلقا على ما ألحقه المتظاهرون من خسائر مادية لدى انتقالهم الى العاصمة تقريبا كل يوم خميس للتعبير عن سخطهم لموتاهم: «فليفرحوا الآن بسويسراهم». وهذه النقطة اساسية في عملية التعرف على بجاية وفهم حركيتها وعقلية سكانها، الذين دفعت الاصولية بالكثير منهم الى رفض كل شيء يأتي معها. والمقصود هنا بالرفض اللغة العربية. وفي كثير من الاحيان يذهب المتطرفون من هؤلاء الشبان من «جيل الربيع الامازيغي لعام 1980» الى ربط اللغة بالدين، لرفض الدين ولغته.

وهناك تقارير نشرت اخيرا في الجزائر، اشارت الى توجه عدد من الجزائريين الى الديانة المسيحية بعد نفورهم من الصورة التي تعطيها الحركة الاصولية المتطرفة لديننا الحنيف. واغتنمت فرصة وجودي في بجاية، ولو لساعات، لأبحث عن الوجود المسيحي فيها واتحقق من هذه المعطيات، لكنني وجدت المسيحية، كما هي عليه في سائر مدن الجزائرية الاخرى، مكبوتة وهامشية مقارنة بالاسلام.

وحتى من خلال تنقلي داخل المدينة، فلم يعد للكنائس فيها اثر رغم انها كانت يوما عامرة بالمستعمرين الفرنسيين والمبشرين. فقد حولت الكنائس الى مساجد، وطمست معالمها، شأنها في ذلك شأن الكنيس (للديانة اليهودية)، الذي لولا تنبيه مرافقي، لما فرقت بينه وبين مسجد بني قبل فترة قصيرة. ويبدو ان حركة التأميمات لثراوت البلاد لنهاية الستينات في الجزائر، انهت ملكية الاجانب او جهات اجنبية (حتى دينية) للاراضي والمباني التي توجد عليها هذه الكنائس، اذ استعادت البلديات ملكيتها والقرار في مصيرها. ذلك، على الاقل، ما فهمته من كلام الأب لوي اغيس الذي التقيته في مدرسة وسط المدينة يسكن فيها الى جوار راهبتين وابوين آخرين، خصص جزء منها للعبادة. ولم يستقبلني الاب لوي بسهولة لدى معرفته لمهمتي الصحافية في المنطقة، غير انه دعاني الى دخول بيته، مؤكدا رفضه الرد على تساؤلاتي، فقال بعد عناء شديد: «لقد تحولنا الى هذا المبنى بعد ان استعادت البلدية ملكيتها للكنسية التي كنا فيها سابقا، الامر الذي لم يزعجني لأن الصلاة كانت فيها حزينة، فالمكان كان ضخما وعدد المصلين فيها قليل». الكلام مع الراهب، كان مشوقاً، اعرب لي خلاله عن تعلقه بالارض الجزائرية التي يوجد بها منذ منتصف القرن الماضي، مؤكدا ان اغتيال «رهبان تيبرين السبعة قبل نحو 3 سنوات، لم يزعزع قناعته في مستقبل الجزائر واستقرارها». وتساءل حينها الاب لوي قائلا «هل حياة هؤلاء الرهبان احسن من حياة الاطفال والنساء والرجال الذين يغتالون في فراشهم؟ فان حانت ساعتنا نحن فمثلنا مثل غيرنا من الناس هنا. أما الآن فنكتفي بالعيش وسطهم ليس اكثر، اذ اعمل ايضا كمهندس كهرباء عند شركة محلية».

وعند سؤالي الراهب عما اذا كان عدد المصلين من ابناء المدينة في تزايد، قال قبل ان يفكر ملياً في رده «ان عدد ابناء المدينة الذين يصلون في الكنيسة لا يتجاوز العشرات، وان معظم المصلين في القاعة التي حولت الى كنيسة، هم من الطلبة الأفارقة واولئك المهندسين الأجانب العاملين في المشاريع الاستثمارية في الولاية او الولايات المجاورة لبجاية». من جهة ثانية، فان صلاة الاب لوي لا تقام كغيرها صباح كل يوم أحد، بل ظهر كل يوم جمعة.. حتى يستطيع اكبر عدد من المصلين حضورها، اذ ان يوم الجمعة يصادف يوم عطلتهم الاسبوعية.