من هم المعارضون الحقيقيون للرئيس الحريري ومشروعه الاقتصادي؟

TT

المعارك التي تشهدها الساحة السياسية اللبنانية، مؤخرا: ما و راءها، بالضبط؟ هل هي معركة بين الرؤساء الثلاثة على صلاحيات الحكم وادوار السلطات؟ ام هي معركة بين مشروع الرئيس الحريري وحكومته لانقاذ الاقتصاد اللبناني والاحزاب والجماعات والمجموعات التي ترى مصالحها وحقوقها مهددة بهذا المشروع؟ ام هي معركة بين «حلفين»: حلف رئيس الجمهورية ـ حزب الله، وحلف الحريري ـ بري ـ جنبلاط؟ ام هي معركة المستفيدين من رواسب الحرب اللبنانية، التي حملت الى الادارات الحكومية كثيرا من الفوضى والفساد والهدر، في العشر سنوات الماضية، وكبدت لبنان، ولا تزال، هذا الدين العام المتزايد، وبين الذين يطالبون ويعملون لتحقيق الاصلاح الاداري الذي، بدونه، لا انقاذ ولا انعاش ولا مستقبل للاقتصاد اللبناني؟

ان من يتتبع فصول هذه المعارك التي بدأت مع ابتداء جلسات مناقشة الموازنة في المجلس النيابي، ولا تزال مستمرة، يحار في اكتشاف السبب او الاسباب الحقيقية او المباشرة، الكامنة وراءها. ولكنه ليس من الصعب الظن او القول ان هناك اكثر من سبب، بين ظاهر وخفي، واكثر من «حساب» مستقبلي، وراء ما حصل، وانها متشابكة ومتداخلة .

فمن الراهن، اولا، ان دستور الطائف، في حرص واضعيه على اقامة موازنة واقعية بين الطوائف اللبنانية الاكبر عددا في لبنان، عبر سلطات رئيس الجمهورية (الماروني) ورئيس الحكومة (السني) ورئيس المجلس (الشيعي)، ربما حلوا مشكلة «المشاركة» او «التوازن الطائفي»، التي كانت تثير حساسيات دائمة قبل الحرب، ولكنهم افسدوا، ما يسمى في النظام الديمقراطي البرلماني الذي يتبعه لبنان، لعبة الفصل بين السلطات وتعاونها في الحكم والتشريع. ونشأ من جراء ذلك ما يسمى «الترويكا»، اي الحكم بثلاثة رؤوس، الذي يعترض الجميع عليه، من جهة، حتى اذا خرج الرؤساء الثلاثة عنه، قامت الضجة وارتفعت اصوات الشكوى، وبرزت الحساسيات الطائفية بل والمذهبية حتى داخل مجلس الوزراء .فممثلو الطوائف الاخرى (كالروم الارثوذكس والدروز والروم الكاثوليك والارمن، ايضا)، لم يخفوا اعتراضهم على «حصر» ممارسة الحكم، بممثلي الموارنة والسنة والشيعة، واعتراضهم على الترويكا. ومن هنا فان اي سياسة او قرار «لا يشارك» في اعداده او تقريره كل الافرقاء في المنظومة الطائفية، يثير، اوتوماتيكيا، اعتراض او معارضة غير المشتركين فيه. ومن الطبيعي ان يكون لها الاشكال التوازني الدستوري ـ الطائفي اثره في الصعوبات التي يصادفها الرئيس الحريري في تنفيذ خطته.

وهناك، ثانيا، اختلاف آخر، عميق الجذور، بين نظرة الرئيس الحريري وقسم كبير من السياسيين والمرجعيات والفعاليات الى الانماء الاقتصادي المرتكز على اللبيرالية الواسعة والواقع المالي والاقتصادي في العالم والمعايير الدولية لتقديم المساعدات واستجلاب الاستثمارات، وبين القوى والاحزاب المنبثقة عن مناطق محرومة او ذات العقيدة السياسية الاشتراكية او الاجتماعية او الدينية الرافضة للعولمة وما يرتبط بها او ينبثق عنها من قيم ومعايير اقتصادية، وفي طليعتها تلك التي ترتكز عليها خطة الحكومة الحريرية الاقتصادية والمالية. فالخطة الحريرية تفترض خصخصة قطاعات عدة وبالتالي الاستغناء عن عدد كبير من العاملين فيها، بينما الاحزاب والنقابات تعارض صرف اي موظف. والخطة الحريرية تفترض تركيز الاستثمارات في القطاعات المنتجة، بينما الاحزاب المتكلمة باسم ابناء المناطق الزراعية تطالب بالانفاق على تنمية هذه المناطق مباشرة، وفي مشاريع لا مردود لها في القريب العاجل. لقد حاول الرئيس الحريري افهام معارضي سياسته بأن ما خصص في الموازنة للتعليم وللصحة وللطرقات والكهرباء والماء، رغم حجم الدين وخدمته ورغم ضخامة نفقات الادارة الوظيفية، انما هو انمائي وتستفيد منه كل المناطق، فنواب حزب الله والمناطق المحرومة لم يقتنعوا على ما يبدو.

هناك، ثالثا، المشكلة الكبيرة المثلثة الاضلاع، ونعني الدور السوري في لبنان معطوفا على استمرار حزب الله في مقاومة اسرائيل وعلى المصالحة الوطنية بين اللبنانيين. فليس سرا ان استمرار الحدود اللبنانية الجنوبية مشتعلة، بسبب استمرار المقاومة وردود الفعل الاسرائيلية المنتظرة، يتعارض كليا مع نجاح الخطة الاقتصادية الحكومية التي يصعب عليها استجلاب الاستثمارات والمساعدات، في حال استمرار الاجواء السياسية متوترة والحدود اللبنانية ـ الاسرائيلية مشتعلة. واعتراض رئيس الحكومة على توقيت عمليات المقاومة (اي حزب الله) سبق ان اثار ازمة بين الطرفين. وقد ذهب البعض الى حد القول بان هناك التقاء او تحالفا بين رئيس الجمهورية وحزب الله، مؤيد لاستمرار المقاومة مقابل التقاء او تحالف بين الرئيسين بري والحريري وجنبلاط، معارض او متحفظ بشأن استمرارية عمليات المقاومة. كما قيل ان رئيس المجلس النيابي، وهو ايضا، رئيس حركة «امل» المتنافسة مع حزب الله على قيادة الطائفة الشيعية سياسيا، وحليف موثوق من سورية، كما هو حزب الله، يخشى من جراء تأييده للحكومة وللرئيس الحريري اتاحة الفرصة لحزب الله كي يحقق مكاسب شعبية على حساب حركة امل، في الاوساط الشيعية. ولذلك فانه يتحفظ في تأييد الحكومة، كما يتحفظ في معارضتها. اما دمشق فانها حريصة على ابقاء ثقتها وصداقتها وتعاونها مع كل الاطراف اللبنانية المتنازعة، اي مع رئيس الجمهورية والرئيس بري والرئيس الحريري وحزب الله ووليد جنبلاط. وحتى لو لم تكن تخشى على مصالحها ووجودها في لبنان، من خلافاتهم، فانها حريصة على انهاء هذه الخلافات او على الحؤول دون تفاقمها، ولكن الى حد ما، ذلك ان اسباب الاختلاف عميقة ومناسبات ظهورها شبه يومية.

ان الرئيس الحريري لا يستطيع التراجع عن عمليات الاصلاح والتمهيد للخصخصة التي تتطلب قرارات جريئة وصعبة، قد تؤدي الى مشاكل واضطرابات اجتماعية وربما الى ازمة حادة مع حزب الله والحزب القومي الاجتماعي والرئيس بري، وربما الى تعديل الحكومة واخراج المعارضين لهذه السياسة فيها. ولكن معارضي سياسة الحريري، او الحريري شخصيا، «محسوبون» على سورية. فهل تدعمهم ام تختار الرئيس الحريري وسياسته؟ ام تسعى للتوفيق بينهم وبين الحريري؟ وماذا سيكون موقف رئيس الجمهورية والرئيس بري من هذه المعارضة القومية ـ المقاومية للحريري؟

ان عدد الملفات المطروحة للفتح كبير: (الكهرباء، الهاتف، طيران الشرق الاوسط، محركات المازوت، التنصت، استمرار المقاومة، تلفزيون لبنان، عودة زراعة الحشيشة، تبييض الاموال والسرية المصرفية)، ولا ننسى العلاقات اللبنانية ـ السورية، والحوار من اجل مصالحة وطنية، وتعديل قانون الانتخابات. وليس بامكان الرئيس الحريري ـ او اي رئيس حكومة ـ او حكومة تحقيق اي نجاح في معالجة هذه الملفات وحل مشاكلها الا اذا دعمه وساعده المجلس النيابي ورئيس الجمهورية والاحزاب والقوى السياسية، بالاضافة الى سورية.

يردد الحريريون بان الرئيس الحريري مصمم على تنفيذ خطته الاصلاحية والانقاذية مهما كان الثمن. ويذهب بعضهم الى القول بأن ليس من مصلحة البلد تفشيل الرئيس الحريري ولا «تقريفه» وحمله على الاستقالة، لأن استقالته سيكون لها اثر سيئ جدا على الاوضاع الاقتصادية وعلى ثقة المراجع المالية والسياسية الدولية. وهذا صحيح. ولكن اليس هناك في لبنان، وغير لبنان، من لا «يريدون» او من لا «يناسبهم» او من «يتضررون» من جراء تحقيق الاصلاح الاداري وانتعاش الاقتصاد وقيام دولة القانون والمؤسسات في لبنان؟

في نظر البعض ان كل هذه المعارك الصغيرة لا تقاس او يجب ان لا تقاس بالمعركة المصيرية الكبرى التي يخوضها الفلسطينيون والعرب مع اسرائيل وشارون. وان تلاحم المصيرين السوري واللبناني واستمرار المقاومة في الجنوب اللبناني، او استعادة لبنان سيادته واستقلاله في تقرير مصيره، هي التحديات الحقيقية او الكبيرة التي يجب الاهتمام بها. ربما، ولكن ما من لبناني الا ويخشى، وهو الذي رأى كيف ان الحرب انقصت من قيمة الليرة اللبنانية سبعماية مرة، من ان يستيقظ، يوما، ليجد سعر ليرته هابطا او متهابطا من جديد.. اذا لم تتمكن الحكومة من ايقاف الهدر واجراء الاصلاح وتخفيف الدين العام وانعاش الاقتصاد، اي اذا فشلت خطة الرئيس الحريري وحكومته.

ولسنا نرى، لسوء الحظ، في الواقع السياسي الراهن من يستطيع النجاح، اذا ما ادت الحركات المعارضة للحريري وحكومته، الى تفشيله او استقالته؟