الحركات الإسلامية ودكتاتورية النسق

TT

من أزمات الوعي العربي ان تنشد الأفكار الى الواقع، وتخلد إلى الأرض بطريقة لو أدركها كارل ماركس نفسه لتنبأ بنجاح الفكرة الماركسية في الدول العربية والإسلامية بدلا من التنبؤ بذلك في برمنغهام.

ويحاول كثير من المثقفين العضويين (أي المنتمين الى اتجاه معين) داخل التيار الاسلامي ان يقنعوا الناس بأن الفكر سابق على الواقع وأن الانسان هو صانع تاريخه وليس العكس، ومع ذلك تبقى أفكارهم رهينة اليومي، وضحية الاهتمام بالجزئيات المتناسلة، في غياب وعي الاستشراف، والنظر المستقبلي المتحلل من أوزار الواقع والمتنبئ بالمآل، ولقد رجعت لنفسي بعد تجربة دامت أكثر من عقد من الزمن في إطار العمل الاسلامي أفكر في مآلات الحركة الاسلامية، وأهدافها البعيدة وحاولت قدر المستطاع ان أتجرد من النسق الكلي للأفكار التي تبنيناها لمدة غير يسيرة من الزمن. إذ اصبحت مقتنعا بأن التفكير من داخل النسق لا ينتج فكرا مستقبليا لأنه فكر محكوم بالهموم اليومية وردود الأفعال، وتأكدت من خطورة انتماء العلماء الى الأحزاب والحركات وهي بدعة جديدة جنت على الاجتهاد وجعلته مرهونا لدى المؤسسة أو التنظيم أو الجمهور.

ولا يغرنك اتهام ابناء الحركات الاسلامية للعلماء بخدمتهم للسلطة، فقد أحيانا الله لنرى أنصاف العلماء ترهنهم جماهيرهم، وتوظفهم تنظيماتهم، ولا فرق عندي بين خدمة الفكر للسلطة وخدمته للجمهور أو الحزب ما دامت النتيجة واحدة: قتل حرية الفكر ووأد الابداع. لقد نادت الحركة الاسلامية منذ نشأتها بضرورة التجديد، ونجحت نجاحا كبيرا في اعادة الاهتمام بالتأصيل الديني للأفكار والنماذج المعرفية المتبعة، غير انها لم تنتبه الى ان المتغير الزمني داخل معادلة الاصلاح ليس متحيزا، بل هو محايد تماما وجريان أحكامه على الآخر لا يعني ان في الحركة الاسلامية مناعة خاصة تجعلها بمعزل عن تأثيره، وتفصيل هذه الفكرة ان الحركة الاسلامية اعتبرت نفسها اداة التغيير ووسيلة الاصلاح واعتبرت ما حولها من مجتمع وسلطة وأفراد موضوع التغيير وميدانه، ونسي منظروها تحت وطأة التفكير من داخل النسق ان الحركة نفسها قد تتحول الى موضوع للتغيير، وان التجديد الذي تنادي به ينبغي ان تنزل مقتضياته على أفكارها ومناهجها ووسائلها. ذلك ان متغير الزمن فاعل في تغيير فعالية الافكار، والتقليل من قدر التزام الناس بها، ولقد أشار القرآن الكريم الى هذه السنة الكونية في قوله عن أول بشر خلقه: «ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما» (طه 115)، وفي قوله عن أهل الكتاب: «ألم يأن للذين آمنوا ان تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون» (الحديد 16).

وما زال كثير من أبناء الحركة الاسلامية لا يتصورون حدوث تغيير اجتماعي مصلح خارج تصوراتهم ومخاييلهم التي تداعبها الرومانسية المهدوية، وسمفونية الطائفة المنصورة، ولهذا السبب تجد ان عملية انتاج الافكار داخل الحركات الاسلامية عملية بطيئة، والافكار التي يسمح لها بأن ترى النور محكومة بدكتاتورية النسق، بحيث يصعب ان تجد مجالا للأفكار الناقدة، والتي من شأنها ان تضخ دما جديدا في الدم الآسن ليؤدي عمله في دورة الإصلاح واعادة النظر في المسيرة. والعجيب ان تتحول كل احباطات العمل الاسلامي الى نصر في أذهان الاسلاميين بضرب سمج من التأويل وهو ان المحنة دليل على صحة الطريق، والابتلاء دليل على سلامة المنهج، وهذا صحيح لو أعقب المحنة فكر جديد، وأطل علينا بعد الابتلاء نسق مختلف، أما وأن حليمة بعد كل نكسة تعود الى العادة القديمة فإن المحنة حينها تكون عقابا، والابتلاء جزاء سننيا ينال كل من لم تسعفه حكمة، ولم يحضره عقل لتجنب العاصفة والتجانف عن المحذور.

وبفعل التأويل السمج تتحول أمراض الجسد الحركي الى مشاكل عادية، وتعفنات المؤسسة التنظيمية الى دليل على ثراء الاختلاف: وصدق المتنبي حين قال:

أعيذها نظرات منك صادقة أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم وإذا كان المثقف بفعل قدرته على التحليل، وأهليته للاستشراق، هو من يستطيع ان يسمي الاشياء بأسمائها داخل التنظيم، فإن هيمنة السياسي، والحركي على المثقف في توجيه مسيرة المؤسسات تفقد الجمهور القدرة على الاقتناع بما يقول المثقف وتسلم قيادها لقليلي البصر والبصير ليوردوها تهلكة لا تكون الحركة وحدها ضحيتها، بل الإسلام نفسه بأزمات الحركات قد يوضع ـ لا قدر الله ـ موضع التساؤل من جديد.

* الجامعة الاسلامية العالمية ـ كوالالمبور ـ ماليزيا