ما لم يقله زرادشت

TT

خوف العالم العربي من العولمة يخيف اكثر مما تبهج تلك التظاهرات ضدها في مختلف بقاع العالم كلما اجتمع البنك الدولي او التقى رؤساء نادي الثمانية، فجميل ان يكون ضمير العالم مستيقظا للخراب الذي يمكن ان يحدثه تسلط الشركات العابرة للقارات على المصائر البشرية، فالشركة القابضة اخطر من الدولة العظمى لأن الدول في النهاية تحكمها دساتير وقوانين ونظم مصانة في التعاملات الدبلوماسية والانسانية، اما الشركات الناجحة فلا يحكمها غير قانون الربح والخسارة.

اما خوف العالم العربي والعالم الاسلامي من العولمة، فإن اوضح ما يخيف فيه ان يتنكر التراثيون للتراث، فنحن نأكل الماضي، ونشربه، ونتزوجه ونحاول ان ننجب منه، وحين يأتي موعد امتحانه نتنكر لأجمل ما فيه وارقى.

لقد كانت الحضارة العربية الاسلامية عولمية بامتياز، فقد امتد تأثيرها من الصين الى اطراف اوروبا في الاندلس وجنوب فرنسا وايطاليا، وعلى مدار ذلك الامتداد الذي لم يقيض قبلها حتى للحضارة الرومانية ولإمبراطورية الاسكندر ذات العمر القصير مارست الحضارة العربية الاسلامية خلط الثقافات والاعراق، واللغات، وصهرت الخلافات في اتونها وخرجت باسلوب جديد غير وجه العالم، ومن كان هذا تراثه بهذه الروعة العولمية فلماذا يخاف من العولمة؟

ان الخوف الحالي من العولمة وحركة مقاومتها عربيا واسلاميا ينبعان من نقص الثقة بالذات الحضارية. فلا يخفى على أحد ان الكوارث المتتالية قد حطمتنا نفسيا وجعلتنا نتوجس خيفة من كل غريب وجديد، وننظر بشك وحذر الى كل فكرة يبدأ انتشارها من ذلك الغرب الذي استعمرنا، واضطهدنا، ونهب ثرواتنا فلما غادرتنا جيوشه عاد الينا بالمنتجات والافكار ليصنع من يشاء على مقاسه، ويقضي على البقية بالعزلة والتهميش، والعيش خارج اطار التاريخ الذي لم ينته ـ بالاذن من فوكوياما ـ انما تحرك مع الألفية الثالثة باسلوب مغاير لحركته السابقة، وصارت جحافل رأس المال هي التي تتحرك براحتها دون حاجه لفيالق عسكرية.

ولا شك ان عند الخائفين من العولمة اسبابهم المقنعة نسبيا، فالوحش الإمبريالي الجديد قد يصبح في أية لحظة خارج كل سيطرة، وقد يتحرك دون اي قاعدة اخلاقية، فعلم الهندسة الوراثية المحتكر غربيا بالكامل قد يتيح استبدال قوم بآخرين، وبالتالي فإن فكرة نيتشه عن «السوبرمان» في كتاب «هكذا تحدث زرادشت» تصبح حقيقة واقعية بعد ان ظلت نائمة في ظلال المخيلة لأكثر من قرن.

وهذه التهديدات وغيرها لا يمكن مواجهتها بدفن الرؤوس في الرمال على طريقة النعام ولا بالهرب الدائم الى الامام، فهناك لحظات تاريخية يصبح فيها الهرب بأي اتجاه من المستحيلات وتحين لحظة المواجهة شئنا أم ابينا، وهذه اللحظات بحاجة لقرارات وحركات فكرية جريئة وقادرة على تحويل نقاط الضعف الى نقاط قوة.

واذا كان قطار العولمة لا يمكن ايقافه، وهذه مقولة صحيحة الى حد ما فإن التحكم فيه وتغيير اتجاهه ما يزال ممكنا، وهذه خطوة لا تتحقق بالانعزال ولا بالانكفاء على الذات انما بالانخراط ضمن التيارات الفاعلة الساعية الى اهداف متقاربة ان لم تكن متشابهة.

ان جزءا كبيرا من حركة الاحتجاج الدولية ضد العولمة مكون من جماعات السلام، وانصار البيئة واليساريين السابقين الذين يطلق عليهم على سبيل المزاح الكئيب اسم ايتام الاتحاد السوفياتي، وهؤلاء جميعا من التيارات الفاعلة والقادرة على التأثير على مسار الاحداث في بلاد ما تزال تحترم الرأي العام فهل حاولنا في الدول العربية ان نجد صيغة ما للتعاون والتنسيق مع هذه الفئات التي تستطيع التأثير على اتجاه قطار العولمة اكثر منا؟

أكاد اجزم اننا لم نحاول، ومع ذلك فإن الاوان لم يفت لتشكيل حلف بين شعوب العالم الثالث والطبقات الاقل رفاها في الغرب يقوم على قاعدة الايمان بالتقدم، والاتفاق على الاستفادة الجماعية من ثمار العولمة بترشيد اتجاهاتها وترسيخ ايجابياتها، ولجم السلبي منها بقوانين دولية ملزمة تستطيع جماعات الضغط الغربية المشار اليها فرضها بتظاهراتها واحتجاجاتها، ونستطيع دعمها وتقوية حججها بتعميم مفهوم دولة سيادة القانون والبدء باحترام القوانين ؟؟؟؟؟؟