القيصر المواطن الذي يدخل قاعة العرش من بوابة الجمهورية

TT

تعيش بلغاريا هذه الأيام تجربة في الحكم فريدة من نوعها: إنها ظهور ملكها السابق المخلوع على خشبة المسرح السياسي بعد أن غاب عن بلاده أزيد من نصف قرن، ونجاح حزبه الذي أنشأه في أبريل (نيسان) هذه السنة في اكتساح أغلبية برلمانية في الانتخابات التشريعية التي جرت يوم 16 يونيه (حزيران) من الأسبوع المنصرم، وترشُّحُه المتوقَّع لتولي منصب رئيس الحكومة المقبلة بوصفه زعيم الأغلبية في بلاده الديمقراطية.

إن كل شيء في هذا المسلسل مرَّ بوتيرة سرعة قياسية وشكَّل تجربة لا يُعرف لها مثيل لا في أوروبا ولا خارجها. لذا فجميع وقائعها تؤهِّلها لنعتها بالمفاجِئة المحطِّمة لجميع المقاييس المعتادة في الديمقراطيات.

أن ينشأ حزب سياسي في شهر ابريل المنصرم فقط، وأن يحصل على الأغلبية البرلمانية اثر ذلك وفي فترة شهرين فقط، فهاتان مفاجأتان لا عهد للنظام الديمقراطي عبر العالم بهما، وان يكون زعيم هذا الحزب الظافر هو الملك السابق المخلوع بانقلاب قام به سنة 1946 الحزبُ الشيوعي التابع للاتحاد السوفياتي عندما كان هو طفلا في السادسة من عمره فهذا يزيد في غرابة عناصر المفاجأة، ويُغني تجارب الحكم بهذه التجربة الجديدة التي لا يوجد لها مثيل.

بعد ثلاث سنوات من موت والد «سيميون الثاني» القيصرِ بوريس الثالث مسموما من لدن اجهزة المخابرات السرية التابعة لنظام هتلر عندما لم ينفذ امر «الفوهرير» بارسال القوات الملكية المسلحة البلغارية الى الواجهة السوفياتية في الوقت الذي كان فيه النظام النازي محتاجا اليها لمساعدته أُعِلن عن خلافته على العرش من لدن ولده الطفل باسم الملك أو القيصر «سيميون الثاني» ووُضِع تحت رعاية مجلس الوصاية الى حين بلوغه سن الرشد.

لكن الحزب الشيوعي الذي سيطر على الحكم في بلغاريا سارع سنة 1947 الى القيام بانقلاب على الملك الطفل وأعلن الجمهورية. وغادر الملك المخلوع البلاد وعمره تسع سنوات، مستقرا في مصر أولا الى أن أتم دراسته بـ «كوليج فيكتوريا» بالاسكندرية وكان ملك الأردن حسين بن طلال رفيقه في الدراسة، ثم غادر مصر الى اسبانيا حيث استقر طويلا وأخذ يتردد على المغرب فبوَّأه الملك الراحل الحسن الثاني منزلة رفيعة وقرَّبه منه وكان يؤثره بالرتبة الأولى بين مدعويه الأجانب. واتخذ منه صديقا حميما لما كان يجمعهما من وشائج. فالملك «سيميون الثاني» الذي لم يعترف بشرعية الانقلاب عليه وظل يعتبر نفسه ملكا شرعيا كان يلتقي مع الملك الحسن الثاني في سعة الفكر وتنوع الثقافة وتوحُّد الرُّؤى السياسية.

لقد قُدِّر لي ان اتعرف عليه عن كثب عندما كنت مستشارا للعاهل المغربي وأكبرت فيه سعة الاطلاع وقوة الشخصية مع تواضع تلقائي طبيعي لا تكلف فيه ولا تصنع. ولم أسمعه قط يتحدث عن ماضيه ولا عن تطلعاته المستقبلية ولا عن حلم العودة إلى العرش. كما لم يكن حاقدا على نظام بلاده السياسي الذي كان وراء اغترابه عن مسقط رأسه واجباره على اختيار منافيه.

وبحكم اقامته طويلا في اسبانيا، ولأن زوجته اسبانية لها قرابة ـ ولو بعيدة ـ بالأسرة الملكية التي حكمت اسبانيا قبل عهد فرانكو ثم عادت الى الحكم تحت امرة الملك خوان كارلوس، فإن هذا الأخير كان هو ايضا متعاطفا مع ضيفه البلغاري الكبير. وكانت تربطه به علاقة لا تقل حميمية عن علاقة الملك الحسن الثاني الذي كانت تربطه نفس العلاقة بملك اسبانيا.

الملك الحسن الثاني كان له تعلق كبير بالشرعية وحرصٌ على ابداء تعلقه بها. لذلك كان يُكرِّم ضيفه «سيميون الثاني» ايما تُكرِّيم. وقد ساعده ماديا ومعنويا على أن يعيش بالمغرب عيشة كريمة ووفَّر له جميع مظاهر التكريم دون أن يُحدِث ذلك في علاقته مع بلغاريا قطيعة او توترا أو فتورا، خاصة و«سيميون الثاني» لم يكن له أي تحرك سياسي، كما لم يكن يعمل للعودة الى عرش بلاده أو يبدو عليه ما يؤذن بذلك.

في سنة 1996 أي بعد سقوط النظام الشيوعي في بلغاريا عاد «سيميون الثاني» الى بلاده مواطنا عاديا زائرا ليكتشف بلاده التي كان يسمع عنها ولم تكن سنه المبكرة حين أجبِر على مغادرتها تسمح له بمعرفتها. لكنه استقبل بحفاوة وتكريم، لأن ماضي الرجل كان ناصعا لم يتلوث طيلة عهد النفي. ثم عاد من حيث أتى (اسبانيا والمغرب) ليسترجع انفاسه ويحدد مواقع خطاه على مسرح السياسة التي اعتزم خوضها داخل بلاده لا كملك ولكن كمواطن عادي، وكان ذلك منذ شهر ابريل (نيسان) من هذه السنة.

وحينما بادر الى تنفيذ مخططه السياسي الهادف الى دخول بيوت الحكم من أبوابها كمواطن انخرط في المنظومة الديمقراطية لبلاده وراهن على آليات النظام الديمقراطي التي تكفل لمخططه النجاح.

أسس المواطن ـ لا الملك ولا القيصر ـ حركة سياسية باسم «الحركة القومية سيميون الثاني»، وكان نعت الثاني لاسم سيميون هو وحده الذي يُذكِّر بماضيه ومرجعيته، لكنه تذكير خافت يعلو عليه صوت المواطنة الصارخة بهويته، خاصة وأن اسم «سيميون الثاني» أصبح في حالته المدنية هُوية لاسمه ونسبه ليس إلا.

أما برنامجه الانتخابي الذي أعلنته الحركة فكان واضحا في هُويته السياسية: ان المواطن «سيميون الثاني» والقادة البلغاريين المنضمين اليه منخرطون في منظومة العالم الجديد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. وسيكون حكمهم السياسي قائما على قواعد النظام العالمي الجديد. وهم يدعون المصوتين في الانتخابات التشريعية الى انتخابهم على اساس برنامجهم السياسي، وهم سيعملون على انضمام بلغاريا الى الاتحاد الأوروبي والانخراط في حلف شمال الأطلسي. وهم مع العولمة في جميع أبعادها وبدون تحفظ. وهم يناهضون نظام التخصيص الشامل للقطاع العام. وهم سيقضون على تعفن الحكم والرشوة والفساد والتلاعب بأموال الدولة. وهم سيكافحون للقضاء على الجريمة ويعملون لتثبيت الأمن. وسيرفعون اجور أطر التعليم، ويُخفَّضون معدل الفوائد للمقترِضين الضعفاء. وهم يَعِدون بالتخفيف من التفاوتات الطبقية. وهم يدعون بكلمة جامعة شعب بلغاريا الى الانخراط في مخططهم السياسي وتوفير النجاح لتجربتهم، لأن التجارب السياسية قبلها لم تكن لها حصيلة ايجابية.

ولم يأت في البرنامج الانتخابي للحركة القومية ما يشير الى تطلع زعيمها لاعادة النظام الملكي، كما أن المواطن «سيميون الثاني» لم يرشح نفسه نائبا في البرلمان، بل اكتفى بأن يكون محركا لأغلبية برلمانية من خارج المجلس النيابي، والدستور لا يفرض ان يكون الوزير الأول ولا الوزراء اعضاء في البرلمان، لذا فكل شيء يؤشر الى أن زعيم الحركة القومية «سيميون الثاني» قد ينادي عليه رئيس الجمهورية ليرأس الحكومة المقبلة بوصفه زعيم الأغلبية البرلمانية، حيث أسفرت الانتخابات التشريعية عن حصول حزبه على 120 نائبا من مجموع اعضاء المجلس البالغ عددهم 240.

لا يمكن لسيميون الثاني ان يخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة ليصبح رئيس الجمهورية، لأن المجلس الدستوري أصدر رأيه القانوني الذي يعارض ذلك بحكم ان الدستور ينص على وجوب اقامة المرشح لرئاسة الجمهورية خمس سنوات متواصلة بالبلاد قبل الترشيح. وسيميون الثاني لم يستقر ببلغاريا الا منذ ابريل المنصرم.

ربما سيقضي «القيصر» سيميون الثاني خمس سنوات زعيما سياسيا ليرشح نفسه رئيسا للبلاد في الانتخابات التي ستجري بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة. وهو سينتظر بمصابرة وعزم مرور الخمس سنوات التي يراها قريبة. أليس أنه صبر خمسين سنة بعيدا عن بلاده مراهِنا على الزمن؟

هكذا تبدو تجربة «سيميون الثاني» فريدة لعب فيها الزمن دوره لفائدته. والزمن هو الرهان الحاسم كما يقال. ومن يدري فقد يدخل قاعة العرش لاقتعاده من بَوَّابة الجمهورية، وهو ما سيجعل من تجربته السياسية تجربةً نادرةً خِصبةً بالمفاجآت.