هوة العدالة... بين ميلوشيفيتش وشارون

TT

ينقل عن الزعيم البريطاني الشهير ونستون تشرتشل ردّ على صديق ابدى اعجابه امامه بالحشود الهاتفة الهادرة في احد ميادين لندن، بعد النصر على المانيا في الحرب العالمية الثانية، قال فيه «... ولكن الحشود كانت ستكون اكبر لو كان هذا اليوم يوم اعدامي». وقديماً قيل ان هناك خيطاً رفيعاً بين البطل القومي والخائن، هو الخيط الفاصل بين النصر والهزيمة. ففي نهاية المطاف ...التاريخ يكتبه المنتصرون، فقط المنتصرون.

طبعاً الملايين، التي عاشت عقوداً تحت تهديد الإفناء النووي المتبادل بين الشرق والغرب كانت تحلم بيوم تنقشع فيه غيمة المواجهة، وتتطلع الى نظام عالمي جديد يقوم على مبادئ العدالة والحريات وحكم القانون والتسامح والسلام للجميع.

كانت تأمل بنصر ساحق للخير على الشر، للحق على الباطل، للانفتاح والانعتاق على الحجر والقهر والقمع خلف الاسوار الصماء الخانقة.

وعندما اخذت الأرض تميد من تحت قدمي احد العملاقين اللذين استرهنا البشرية منذ 1945، تفاءل الطيبون بأن نهاية العملاق السوفياتي ستعني تخفيفاً لحدة العداء عند العملاق الآخر، ذلك العداء الذي قسم العالم وشقّ شعوبه شمالاً جنوباً.. وشرقاً غرباً. فمبرّر الاستقطاب زال مع استسلام احد النظامين القادرين على تدمير البشرية عشرات المرّات. ولكن ما حصل في ظل ما عرف بـ«النظام العالمي الجديد» جاء مختلفاً اشد الاختلاف. ولعل مواصلة الولايات المتحدة، القوة الغربية المنتصرة، سعيها لاجتثاث اي عامل يمكن في يوم من الأيام ان يسمح بنهوض التهديد الروسي (ليس بالضروري ان يكون شيوعياً) او التهديد الشيوعي (من دون ان يكون بالضرورة روسياً) مسألة منطقية جداً. فالدول الكبرى ليست جمعيات خيرية.. ولا هي فريق كرة قدم يتبادل التحيات مع غريمه في نهاية المباراة سواء فاز او خسر.

ولكن الإشكالية الفكرية التي صاحبت محاولات المثقفين في العالم تعريف انتصار الغرب سرعان ما ظهرت في سلسة من الكتب والخطب والابحاث التي وجدت رواجاً تسويقياً اكبر... كلما كان اجتهاداً اكثر جرأة او اثارة، ولم لا؟ فالعالم كله وجد نفسه فجأة في وضع دولي غير مألوف من قبل.. ربما منذ نهاية عصر الامبراطورية الرومانية، بل قبل ذلك ايضاً. وهكذا صار اسما صمويل هنتينجتون وفرانسيس فوكوياما وغيرهما من مفلسفي الانتصار العظيم اسماء لامعة، غطّت على المفكرين الليبراليين المعادين لتوجهات الصدام كجون كينيث جالبريث ونوام تشومسكي وغور فيدال. وصار علماء واكاديميون من «الصقور» من امثال ادوارد تيلر «ابو القنبلة الهيدروجينية» وفكرة الحرب النووية المحدودة، وميلتون فريدمان «ابو اقتصاد السوق» ومن لف لفهما، مصدر الايحاء وعنوان المصداقية، على انقاض «المتخاذلين» من الساعين الى «الاسترضاء» والتعايش ولو تحت المظلة الحمراء.

اجتثاث اي تهديد للانتصار الكامل، او للنظام العالمي الجديد، كان يقتضي تعريف الخصوم الراهنين والمحتملين، وفرض الهيمنة على كل النقاط الاستراتيجية المكتسبة. وكان جور فيدال في الحقيقة احد اوائل من نبّه الى ان إلحاق الهزيمة بالاتحاد السوفياتي وتدميره لن يجلبا السلام الى العالم لأن طبيعة القوة المنتصرة تحتاج الى عدو يبرّر استثمارها في اسباب القوة... وإذا لم يكن هذا العدو موجوداً لوجب ايجاده. ويومذاك حدد فيدال الاعداء المحتملين بالإسلام ـ كما فعل هنتينجتون ـ والقوتان الاكبر في الشرق الاقصى اي اليابان والصين.

ايضاً كانت هناك بؤر وظواهر حساسة.. كمصادر النفط في الشرق الاوسط، والمياه الدافئة على تخوم روسيا، والتيارات الدينية المناوئة او التي يمكن ان تكون مناوئة للنظام الجديد. وضمن ترتيب الاولويات المدروس. تقرّر «مد» النفوذ الغربي ممثلاً بحلف شمال الاطلسي «ناتو» الى دائرة نفوذ موسكو السابقة في البلقان وحتى حدود جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق مع روسيا ــ بما فيها اوكرانيا. وفي البلقان كانت القيادة الصربية، وعلى رأسها سلوبودان ميلوشيفيتش، حجر عثرة عنيداً... لم يستوعب تماماً حجم الانتصار الاميركي او حجم الهزيمة الروسية. وها هو الآن يدفع الثمن متهماً بارتكاب جرائم حرب امام محكمة دولية.

في المقابل نجد اسرائيل، التي وفق حالة الاستقطاب السابقة للانتصار الكبير كانت الحليف الاستراتيجي الأول لواشنطن في الشرق الاوسط، وحاملة الطائرات الثابتة، بل الولاية الاميركية الـ51. وبذا كان من الطبيعي ان يختلف دورها داخل النظام العالمي الجديد. وحقاً بمزيج من التخطيط الغربي المركّز والاخطاء العربية المألوفة ـ في جو عام من التخلف والارتباك والارتجال ـ ربحت اسرائيل معركة اختراق العالم العربي. وها هي الآن بعد مضي تسعة اشهر من القمع الشرس لـ«الانتفاضة» الشعبية الفلسطينية ما زالت حاضرة في كل العواصم العربية التي طبّعت علاقتها معها، وما زالت المعيار الذي تعتمده الولايات المتحدة في رسم علاقتها بالدول العربية.

بالأمس رحّب الرئيس الاميركي جورج ووكر بوش بارييل شارون، وكان هناك حرص في واشنطن على التذكير بأنه زعيم «ديمقراطي»... بمعنى انه انتخب انتخاباً. ولكن غيّب عن الرأي العام الاميركي ان الضيف العزيز يستحق مشواراً الى لاهاي، والمثول امام محكمة جرائم الحرب... ويجوز الاستعانة بتقارير الادانة الاسرائيلية لدوره في مجازر صبرا وشاتيلا لتكون دليلاً دامغاً على «ديمقراطيته» وبغضه الشديد لـ«الارهاب» و«الارهابيين».

شاهدان آخران قد يودّ الرئيس بوش الاستماع الى شهادتيهما حول ضيفه «الديمقراطي» الصّبور في معركة تحقيق السلام، هما الدبلوماسي الأميركي المخضرم موريس درايبر والقاضي والمحقق الدولي في جرائم الحرب ريتشارد جولدستون اللذان تحدثا بصراحة وبلاغة في برنامج «بانوراما» الشهير ـ الآن ـ على التلفزيون البريطاني. وكلمة اخيرة..

إذا كان القضاء صار صاحب الكلمة الأعلى في بت التجاوزات المرتبطة بتعقيدات السياسة وظروفها، ومنها الاحكام القضائية الصادرة في الولايات المتحدة لصالح ضحايا الخطف والاحتجاز في لبنان، يتوجب الآن على كل فرد او شعب عانى من الاضطهاد ان يجرّب حقه في محاكم العالم الحر قبل ان تلغى نوبات العدالة بحجة «عدم الاختصاص». على كل من شرّد وظلم وشهد مقتل افراد عائلته قصفاً وذبحاً وقهراً ان يبادر الى اقرب محكمة لتسجيل ظلامته قبل فوات الآوان. فصبر العدالة قصير على الضعفاء، اما الاقوياء فحسبهم انها تهرب منهم.