الإعلام العربي.. أزمة اللغات الثلاث

TT

الإعلام هو تعبير عن مصالح الجهات أو القوى التي تقف خلفه، وهو المرآة العاكسة لفعاليات النظم السياسية وجهات القرار السياسي في بلدان العالم الثالث التي لم تنم فيها المؤسسات الديمقراطية لدرجة تجعل من الإعلام أحد أسلحة الصراع والتنافس بين المؤسسات الديمقراطية في المجتمعات المتطورة، وبذلك يصبح قوّة سياسية مؤثرة أو ما يسمى (السلطة الرابعة). وإعلامنا العربي لا يتجاوز كونه صورة للواقع السياسي والاجتماعي والثقافي العربي، وفعالياته هي تنفيذ المنهج السياسي العربي وفقاً لإرادات وقرارات السيادات والرايات لاثنتين وعشرين سيادة وراية عربية. ويبدو من الصعب وضع مقارنة بين حالة الإعلام الغربي والأميركي، وبين الإعلام العربي من حيث وظائفه أو وسائله وأدواته.. صحيح ان وسائل الإعلام الغربية تقع تحت سيطرة قلّة من الشركات الضخمة، وقلّة من أصحاب النفوذ، وقلّة من الأفراد، وقد يكون قسم منهم يوّظف تلك الوسائل لأهدافه الخاصة. لكن الحقيقة المهمة هي ان هناك انسجاماً عاماً بين الوظيفة الإعلامية لتلك المؤسسات، وبين قطاعات المجتمع المختلفة.. هناك قسمة مرضي عنها بين جميع الأطراف. أما الإعلام العربي فوظيفته تواجه اضطراباً في القضايا الداخلية الوطنية السياسية والاجتماعية والثقافية، لأن البنى التنظيمية لوسائل الإعلام الرسمية تتكون من مجموعة الطواقم المقننة وفق ترتيبات جهاز السلطة الرسمية ونظمها وقوانينها الخاصة.. فعلى سبيل المثال يمكن أن يتعرض الصحفي أو الإعلامي للعقوبة الوظيفية، وقد ينقل من دائرته الإعلامية إلى وزارة أخرى. كما يواجه الإعلام العربي أزمة في التعبير عن القضايا القومية ليس لخلل في إيمان القائمين على أجهزة الإعلام العربي بانتمائهم العروبي أو إخلاصهم لقضايا أمتهم، ولكن لخلل جوهري في الخطاب السياسي العربي المعبر عن صورة واضحة للأهداف السياسية الحالية والمستقبلية.. ولهذه الأسباب والحقائق يبدو من التعسف الحكم على الإعلام العربي سواء في فعالياته القومية أو الوطنية الداخلية بأحكام قاسية تستهدف مستواه الفني أو مستوى أداء كوادره الذين يواجهون أقسى ثنائية في الظلم: ظلم الشعب وظلم الحكام.. 21 لغة إعلامية ولعّل من أسباب تعليق الأزمات على الإعلام في بلداننا العربية هو استحكام عقدة الخوف في مواجهة أزمة النظام السياسي العربي وأسبابها الحقيقية، فيتم ترحيلها إلى الإعلام.. فحين نقول بأن هناك أزمة في الإعلام، فهذا يعني أزمة النظام العربي وخطابه السياسي.. وتخضع جميع وسائل الإعلام العربية الرسمية والخاصة لهذه الحالة، سواء أكانت في أوطانها أو في المهجر.. من صحافة أو قنوات فضائية، فالفعالية الإعلامية تخضع لإرادة الممول سواء أكان سلطة حاكمة أو مؤسسة ذات طابع أهلي.. وفي النهاية تخضع لإرادة وهيمنة دولة التمويل.. قد تكون هناك استثناءات نادرة في المحاولات الجديدة لتكوين مؤسسات تجارية ذات طابع تنافسي في بعض مجالات الإعلام الصحفي أو الفضائي لكن خطهّآ السياسي يغلب عليه منهج أصحاب التمويل، والسبب في ذلك هو ان العرب ما زالوا في مرحلة التكوين المدني.. لو لم تصبح «القضية الفلسطينية» عبر أكثر من نصف قرن هي القاسم المشترك لمسؤولية الشراكة القومية في مواجهة الخطر الصهيوني، لوجدنا ان هناك اثنتين وعشرين لغة إعلامية تفصل في ما بينها جدران من العزلة، وقد يلتقي بعضها عند ضفاف الآخر الأجنبي.. والمثال الحالي (الانتفاضة الفلسطينية) قد جمع هذه اللغات عند مداخل التوّحد في الكارثة التي يواجهها الشعب الفلسطيني من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وهو توّحد مؤقت وعاطفي يفتقر إلى القدرة على استلهام المستقبل، ولو لأيام معدودة.. لأن القرار السياسي الجماعي العربي حتى وإن وضع أرضية واحدة على مستوى المبادئ العامة حول سبل المواجهة العربية لسياسة الاحتلال الإسرائيلي.. لكن في واقع الحال هناك ثلاثة مستويات متباينة وبدرجات مختلفة من حيث الحجم والتأثير في الشارع العربي، لدرجة التقاطع في بعض الأحيان من التعبير في لغة الإعلام العربي يحاول المتفائلون اعطاءها صفة التوحّد على الحدّ الأدنى.. المستوى الأوّل: الداعي إلى تحرير فلسطين من «النهر إلى البحر» ووضع الولايات المتحدة في خانة العدو الذي يتطلب المواجهة، وداخل هذا المستوى مظهران من التعبير، أولهما يحاول استحضار ماضي العرب السياسي وتلبيسه للحاضر بكلّ ما أصابه من متغيّرات شاملة، واعتماد اللغة العاطفية التحريضية لمشاعر الجمهور العربي، كسلاح أثبتت وقائع حرب الخليج الثانية 91 انه يقع في آخر قائمة أساليب المواجهة القائمة على مستلزمات واضحة في إدارة الصراع وكسبه.. والبعض الآخر يحاول استخدام هذا المستوى من اللغة الإعلامية للتنصل من المسؤولية الحالية ومتطلباتها.. أما المستوى الثاني من لغة الإعلام: فإنه يطالب بتفعيل حالة المقاومة الفلسطينية، وتوجيه النقد للسياسة الأميركية والدعوة إلى مطالبتها بتعديل سياسة انحيازها لإسرائيل. وهو بذلك يعبّر عن محاولة لتقديم رسالة حادة للراعي الأميركي لكي يلتفت إلى أصحاب هذا الموقف ويتبنى مطالبهم.. والمستوى الثالث: وهو الذي ما زال يؤمن باستراتيجية السلام، ويخشى توجيه النقد لها لكي لا يتهّم بأنه داعية للحرب، وهو أكثر من المستويين الآخرين حضوراً في حركة الواقع السياسي بسبب الدعم الدولي لهذا المنهج، وبشكل خاص من قبل الولايات المتحدة الأميركية على الرغم من انحيازها الفعلي لإسرائيل، ويقع إعلام السلطة الفلسطينية الرسمي تحت هذا المستوى من التعبير، على الرغم من الإحراجات التي يواجهها أمام الجماهير الفلسطينية التي تتلقى مجازر القتل والدمار، والجماهير العربية «المغلوبة على أمرها».

ويؤدي هذا التباين في اللغات الإعلامية العربية الثلاث إلى انعدام حالة التراضي العملي وليس التوقيع على قرارات (رفع العتب) داخل مؤتمرات القمم ووزراء الإعلام العرب، وبذلك فقدان الفعالية لتلك القرارات الجماعية.. قد تحاول بعض الفضائيات احداث لعبة المبارزة في ما بينها على طاولة واحدة كجزء من صنعة العمل الدرامي لجذب المشاهد العربي كتعويض له عن الاستمتاع بمسلسل أو فيلم عربي، أو القيام بصنعة الحوار الصحافي للإيحاء بعرض الآراء الحرّة، لكن الغلبة دائما لمنهج الممول.. في المقابل يواجه هذا المواطن نمطاً واحداً من إعلام طرف الصراع الآخر (الإسرائيلي أو الغربي والأميركي) ولعّل حصول شطحات استثنائية وهي حالة طبيعية في الإعلام الغربي الحرّ مثلما حدث في برنامج panorama في قناة BBC الذي دعا إلى توجيه تهمة جريمة الحرب لشارون لا تشكل منهجاً يمكن الاعتماد عليه من قبل المتلّقي العربي. إن هذه اللغات الإعلامية الثلاث هي ترشيح لثلاثة اتجاهات منهجية في السياسة العربية تواجه أزمة توحيدها من خلال مؤسسة الجامعة العربية، وهي مهمة شاقة إلاّ إذا تحققت درجة من الرضى السياسي بين القادة العرب، وهو لا يتحقق إلاّ من خلال الأزمات والتحديات الدراماتيكية الكبيرة.. وهو ما تسعى الولايات المتحدة إلى منع حدوثه في المنطقة العربية لأنه سيكون عامل توحيد على درجة ساخنة من الرضى.

[email protected]