الباكستان: برويز.. رئيسا

TT

عندما يفشل بلد في مواجهة قضايا الداخل فإنه يتجه إلى محاولة تحقيق انتصارات في الخارج.

ولعلي أضيف بأن جيشا يهزم في الخارج يحاول ان ينتصر على الداخل. وباكستان أقوى مثل على ذلك، فالجيش هناك لم يحقق نصرا واحدا منذ قيام الدولة، لكن تحميل العسكر وحدهم مسؤولية اجهاض الديمقراطية ظلم تاريخي، فالمؤكد ان فشل الطبقة السياسية في ايجاد ارضية للعمل المشترك هو الذي أعطى الفرصة لبرويز مشرف لكي يهدم البناء الديمقراطي الهش.

فالباكستان هي بلد يتحكم فيه الاقطاع بدرجة هائلة، وتتركز مقاليد الأمور بين أيدي نحو اربعين أسرة فاحشة الثراء، يتربع أربابها على قمة «حوانيت» حزبية، وترتكز السلطة على عاتق بيروقراطية ضخمة مدنية وعسكرية، وتستفيد الثروة والفساد من تواطؤ رجال دين يؤكدون أن كل المطالب الاجتماعية تتناقص مع مشيئة الله في تفضيل البعض على البعض.

*** انطلقت فكرة بناء دولة اسلامية في شبه الجزيرة الهندية على لسان الفيلسوف محمد اقبال امام تزايد النعرات الهندوكية.

ثم اشتعلت الاضطرابات الطائفية ووصلت الى ذروتها في 1946، فكلفت بريطانيا اللورد مونتباتن حل القضية على أساس تقسيم القارة الهندية الى دولتين.

وولدت باكستان في 1947 عبر انهار من الدم والدموع، وعرفت السنوات الأولى وفاة مؤسس الدولة، ثم اغتيال رئيس الوزراء «النزيه» لياقت علي خان في 1951، بعد ان خلف محمد علي جناح على رأس الرابطة الاسلامية.

ولم تدم الشرعية الدستورية، برئاسة اسكندر ميرزا أكثر من سنتين، وانتزع الرئاسة جنرال وسيم طويل القامة اسمه ايوب خان.

وكان اعلان الاحكام العرفية بداية الطريق أمام التدخل المباشر للمؤسسة العسكرية في الحياة السياسية.

كانت البلاد تعيش هاجس الجار الهندي، وهو ما يفسر انضمامها لحلف جنوب شرق آسيا في 1955، ثم لحلف بغداد، لتجد نفسها في الخندق المعادي لتوجهات الأمة العربية في مرحلة العدوان الثلاثي، وهو ما استفادت منه الهند، التي تقدمت للعالم العربي كصديق غير منحاز.

ويتزايد دور الجيش بعد نجاح أيوب خان في الانتخابات الرئاسية عام 1960، ويؤدي تضخم الميزانية العسكرية، تحت تأثير الهاجس الأمني، الى تعثر المخطط الخماسي (1965 ـ 1970) ويتزايد في الوقت نفسه دور الولايات المتحدة، الى درجة ان الرئيس يعترف لوزير خارجيته بأنها تضغط عليه ليتخلص منه.

وكان الوزير هو ذو الفقار علي بهوتو، والد بنظير.

وتفجر الحرب الهندية الباكستانية في 1965، وتخسر باكستان المعركة، ويقرر ايوب خان الانسحاب من السلطة، لكنه، وتحت تأثير رغبته في الحفاظ على امتيازاته، يتجاهل الدستور الذي أعده، ولا ينقل السلطة الى رئيس البرلمان، بل الى جنرال آخر هو يحيى خان، الذي يعلن الاحكام العرفية للمرة الثانية في تاريخ البلاد.

والأحكام العرفية هي المناخ الذي تتزايد فيه سلطة المؤسسة العسكرية، ويجري يحيى خان تحت الضغوط أول انتخابات تشريعية تجري بالاقتراع العام المباشر في شطري الباكستان (الشرقية والغربية) وينجح حزب الشعب الباكستاني برئاسة بهوتو في إحراز أغلبية 81 مقعدا من مجموع 132 من باكستان الغربية بينما ينتزع حزب عوامي برئاسة مجيب الرحمان 162 في باكستان الشرقية.

وتتفجر الاحداث التي قادت الى انفصال باكستان الشرقية عن الوطن الأم وتكوين بنغلاديش، وذلك بتأثير تدخل عسكري سافر للهند، يؤدي الى هزيمة باكستانية فادحة.

ويتنازل يحيى خان عن الحكم لصالح رئيس وزرائه بهوتو.

*** كان الشعور السائد بعد الانفصال شعوراً «بوحشة شديدة حزينة أحيانا، غاضبة في أحيان أخرى، مجروحة في معظم الوقت، محسوسة طوال الوقت بألم نافذ حتى العظام»، كما يقول هيكل في كتاب «موعد مع الشمس».

وأصابت الجيش أخطر الجروح.

وتجتاز البلاد مرحلة النقاهة، ويعد دستور جديد يدخل حيز التنفيذ في أغسطس (آب) 1973 وكان من أهم عناصره تكريسه لدور رئيس الوزراء كرئيس فعلي للسلطة التنفيذية، على غرار الأسلوب البريطاني الذي استلهمته الهند وحافظت عليه.

أصبح بهوتو رئيسا للوزراء، وعرفت البلاد تصاعد الآمال في فجر جديد، بفضل ديناميكيته وقوة شخصيته التي حررته من ضغط المؤسسة العسكرية.

ورغم انه ينتمي الى أسرة اقطاعية من مقاطعة السند، فقد كان مثقفا تلقى دراساته في جامعات بريطانية عريقة، وتأثر بأفكار تقدميه، امتزجت بنزعات تحررية.

ويتألق نجم بهوتو دوليا خلال المؤتمر الثاني لرؤساء الدول الاسلامية الذي احتضنته مدينة لاهور في فبراير 1974، وقد حضرت شخصيا ذلك المؤتمر.

واتسمت المسيرة الدولية بالابتعاد عن اطار منظمة الحلف المركزي (بغداد سابقا) وباتخاذ مواقف أقل حدة من الاتحاد السوفيتي.

ولم يكتف بهوتو بذلك، وهو كاف لاستقطاب غضب واشنطن، بل بدأ يتجه نحو العمل لبناء القوة النووية الأولى لدولة اسلامية، بتشجيع من الرئيس هواري بومدين، وبرعاية ودعم من الملك فيصل بن عبد العزيز.

واغضب بهوتو منه كل القوى المؤثرة على الساحة، سواء المؤسسة العسكرية التي عاشت تقلص نفوذها، أو الاقطاع، بكل الشرائح البشرية التي يسيطر عليها ويوجه حركتها، أو التجمعات التي ترفع الشعارات الاسلامية لكنها تعمل كأقنعة لرأس المال.

ومن هنا كانت الشعارات المرفوعة ضد بهوتو هي المطالبة، في وقت واحد، بتطبيق الشريعة الاسلامية واطلاق سراح المبادرات الفردية، وكانت المؤسسة العسكرية تحرك الدمى السياسية.

وتجري انتخابات 1977 في جو تصاعد الاتهامات ضد حزب الشعب، وتتفجر اضطرابات يجزم كثيرون ان قوى اجنبية ساهمت في اشعال فتيلها، وتتحالف المخابرات المركزية مع المؤسسة العسكرية ورجال المال والاقطاع وتحت لافتات الشعارات الاسلامية، ويقوم الجيش البري بقيادة رئيس الاركان، الجنرال ضياء الحق، بانقلاب عسكري يتم فيه التخلص من رئيس الوزراء مع المحافظة على بقاء رئيس الجمهورية، وهو اجراء ذكي، يعطي الجنرال الفرصة لإحكام سيطرته على الأمور، الى ان يعلن نفسه رئيسا في 1978.

وتماما كما فعل برويز بعد ذلك، تعهد ضياء الحق باعادة الحكم للمدنيين بعد تسعين يوما، تمددت حتى اصبحت نحو عشر سنوات.

ويحاكم بهوتو ثم يعدم.

وتعرف تلك المرحلة قيام الثورة الايرانية والغزو السوفيتية لافغانستان، وخلال نحو عشر سنوات اصبحت باكستان قاعدة خلفية للجهاد الافغاني، بكل ما يعينه ذلك من تزايد لدور المؤسسة العسكرية، ارتبطت بفضائح حول صفقات السلاح.

وتتطور الاحداث وترى واشنطن، بعد اتفاقيات جنيف لتصفية الوجود السوفياتي في افغانستان، ان الوقت قد حان لتطوير الاوضاع، فتجرى انتخابات تفوز فيها بنظير، التي ورثت قيادة حزب الشعب عن والدها.

وينتهي دور ضياء الحق بسقوط طائرة تقله في اغسطس (آب) 1988.

وتتولى بنظير المسؤولية في ظل حماس عام، لكنها ترتكب أكبر حماقة يمكن ان يرتكبها زعيم سياسي، حيث تتصرف مع الجيش بخلفية مسؤوليته عن اعدام والدها.

وفي السادس من أغسطس (آب) 1990 يسقط الرئيس غلام اسحاق خان حكومة بنظير السندية، وتجرى انتخابات جديدة يفوز فيها غريمها محمد نواز شريف، رجل الاعمال البنجابي الشاب، وربيب ضياء الحق، ومرشح الاحزاب السياسية.

كان نواز يتمتع بعذرية سياسية اعطت الاحساس لكل فئة بأنها قادرة على احتوائه، واستفاد من دعم لا محدود من المؤسسة العسكرية، خاصة بعد تقاعد الجنرال ميرزا اسلم بيغ، الذي ينتمي لجماعة المهاجرين في منطقة السند، مسقط رأس بنظير.

لكن نواز مارس سياسة الهروب الى الأمام، ثم راح يجري اصلاحات استفاد منها الاغنياء على حساب الفقراء، وبدت كحمل سفاح والده الحقيقي هو البنك الدولي.

وسقط نواز في فخ تصفية الحسابات، فقبض على زوج بنظير.

وتتطور الاحداث وتجرى انتخابات تنتصر فيها بنظير، التي تدفع نحو رئاسة الجمهورية أقرب مساعديها وهو فاروق لوغاري.

لكن الزعيمة الحسناء واصلت التعامل مع الرئيس كأنه ما زال مساعدها القديم.

ويطفح كيل الرجل، ويتمكن، بدعم من المؤسسة العسكرية، من الاطاحة ببنظير.

وتعود المؤسسة العسكرية من جديد إلى ممارسة نفوذها المطلق على الساحة السياسية، فتتخلص من لوغاري، وتضع على رأس البلاد رجلا فاضلا لم يعرف عنه نشاط سياسي كبير.

ويعاد نواز شريف من جديد الى رئاسة السلطة التنفيذية، فيحاول ان يؤكد وجوده المستقل على الساحة السياسية.

وتتزايد الاحداث في كشمير، الجرح الذي لم يندمل قط في الجسم الباكستاني، ويقرر الجيش العودة الى الساحة بشكل مباشر.

وينتزع برويز السلطة، ويسير على خطى ضياء الحق، فيبقي رئيس الجمهورية مرحليا، الى ان اعفاه في الاسبوع الماضي من مهام الرئاسة الشكلية.

وتبدأ مرحلة جديدة من الحكم العسكري المباشر، ستستمر، في تصوري، طويلا.