بين محاكمة الأسد ومحاكمة شارون

TT

تزامنت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد لفرنسا الاسبوع الماضي مع زيارة رئيس الحكومة الاسرائيلي للولايات المتحدة الامريكية. ولتزامن الزيارتين اكثر من دلالة ومعنى.

بيد ان غرضنا في هذا الحيز ليس عقد مقارنة بين الرحلتين، اللتين تندرجان في السياق ذاته، أي تعطل مسار التسوية الشرق اوسطية واستمرار انتفاضة الأقصى التي دخلت شهرها التاسع في الوقت الذي بدأت تتحرك الآلية الدبلوماسية الامريكية والأوروبية لاحتواء الموقف المتصاعد الذي لم تفلح الماكينة العسكرية الاسرائيلية في احتوائه بسلاح القوة والارهاب.

فمن الطبيعي ان يسعى الرجلان إلى استثمار التأييد الدبلوماسي في هذه المرحلة الحرجة، وان تنوعت مطالبهما: فشارون حريص على اقناع حليفه الامريكي باطلاق يده في المناطق المحتلة مع استهداف السلطة الفلسطينية ورئيسها عرفات بالضربة العسكرية المدمرة من دون استعداد لتقديم أي تنازلات تقتضيها تهدئة الموقف، اما الأسد فيهدف من زيارته لباريس إلى اقناع المجموعة الأوروبية بالقيام بدور الشريك الكامل في ديناميكية التسوية الشرق اوسطية من منظور داعم للحقوق والمطالب العربية بما يحقق الحد الأدنى من التوازن مع الدور الامريكي في المنطقة المؤيد لاسرائيل.

واذا كانت زيارة الرئيس السوري الشاب لباريس هي اول اطلالة خارجية مباشرة له على الأوضاع الدولية في ما وراء السياق العربي، ومن هنا تأتي اهمية فرنسا بالنسبة للقيادة السورية الجديدة التي ترى فيها منفذاً ضرورياً للساحة الأوروبية، فان زيارة شارون لواشنطن هي رحلة الجنرال الاسرائيلي المتطرف الأولى للولايات المتحدة بعد وصوله لسدة الحكم في تل أبيب، وقد تزامنت مع عودة الإدارة الامريكية للاهتمام المباشر بالصراع العربي ـ الصهيوني بعد فترة ابتعاد ومراجعة.

بيد ان ما يهمنا اكثر في تتبع ورصد الرحلتين، هو الضجة الهائلة التي واكبتهما لاسباب وخلفيات مغايرة، وان كانت تتعلق في نهاية المطاف باتهامهما بالعنصرية والتطرف، والمطالبة بملاحقتهما قضائياً.

ولئن كانت الإدارة الامريكية استطاعت حماية ضيفها من تظاهرات العرب والمسلمين الذين احتجوا على استقبال الرئيس بوش لقائد عسكري ذي سجل طويل وكثيف في جرائم الحرب وانتهاك حقوق الانسان، فإن الأوساط الفرنسية ـ بما فيها بعض الجهات المقربة من الحكومة ـ مارست ضغوطاً شديدة على الرئيس شيراك لرفض استقبال الرئيس الأسد بحجة «معاداته للسامية» و«تطاوله» على اليهود في خطابه الشهير امام البابا خلال رحلته الاخيرة إلى دمشق. ووصلت احتجاجات اللوبي اليهودي المعروف بقوته في الدوائر الاعلامية والثقافية الفرنسية، حد مضايقة الرئيس الاسد خلال زيارته لبلدية باريس التي ذهب عمدتها إلى التلويح بالادانة الصريحة لتصريحات الرئيس الأسد، في حين رفعت بعض المنظمات الصهيونية الفرنسية دعاوى قضائية ضده متهمة اياه بالعنصرية ومعاداة السامية.

وبطبيعة الأمر، تختلف الدعاوى الموجهة للرجلين: فاذا كان سجل شارون لا يحتاج لوقفة تذكير مطولة، وقد بدأ الكثير من اوراقه الغامضة يكشف للعموم ومن آخرها المعلومات المهمة التي اوردتها قناة BBC البريطانية حول دوره في مجزرة صبرا وشاتيلا بلبنان، فان تصريحات الأسد لم تخرج عن حيز الحقائق المتداولة، ولم تستهدف الديانة اليهودية من حيث هي ديانة سماوية مقدسة هبطت في بلاد العرب، واستوعب اتباعها ضمن النسيج الحضاري الاسلامي من دون الغاء أو اقصاء.

ان ما اشار اليه الأسد هو التوظيف الاقصائي للدين لدى الصهاينة، الذين لا يخفى الطابع العنصري المتطرف لدعوتهم القومية المتعصبة. وليست هذه الدعوة من صميم الديانة اليهودية غير المحرفة، التي تلتقي مع الاسلام والمسيحية في القيم العقدية والسلوكية.

ويكفينا هنا الرجوع إلى النصوص المؤسسة للايديلوجيا الصهيونية حتى تتضح لنا هذه الحقيقة، وعلى رأسها النصوص التلمودية التي هي سن إنشاء الحاخامات المتعطشين للدماء، والمعروف ان اساس الشرائع اليهودية الحالية مستمد من هذه النصوص وليس من التوراة. وقد بين الباحث الاسرائيلي المشهور اسرائيل شاحاك هذه الحقائق في كتابه «الديانة اليهودية وتاريخ اليهود: وطأة 3000 سنة»، وفيه يغوص في المخيال اليهودي ليفسر المرجعية الحقيقية لاجراءات التمييز والاضطهاد التي تتبعها الدولة الصهيونية اتجاه العرب.

فحسب هذه النصوص التي اعتمدها الكنيست الاسرائيلي قانوناً دستورياً لا يجوز الخروج عليه، تختلف الانظمة الجزائية والعقوبية باختلاف اليهود والاغيار. فإذا كان قتل اليهودي عمداً جريمة عقوبتها الاعدام، فان قتل الاغيار مجرد ذنب بسيط، يغدو قربة وحسنة في حالة الحرب، وتحرص المؤسسة العسكرية في اسرائيل على تقديم القوانين التلمودية في شكل ارشادات دينية للجنود الاسرائيليين. ففي كتيب نشرته قيادة المنطقة الوسطى في الجيش الاسرائيلي (التي تتبعها الضفة الغربية) كتب الكاهن الرئيسي لهذه القيادة: «عندما تصادف قواتنا مدنيين خلال الحرب، أو اثناء عملية المطاردة، أو في غارة من الغارات، وما دام هناك عدم يقين حول ما اذا كان هناك مدنيون غير قادرين على ايذاء قواتنا، فيمكن قتلهم حسب الهالاغاه، بل ينبغي قتلهم... اذ ينبغي عدم الثقة بالعربي في أي ظرف من الظروف حتى وان اعطى انطباعاً بانه متمدن... ففي الحرب يسمح لقواتنا وهي تهاجم العدو، بل انها مأمورة حسب الهالاغاه بقتل حتى المدنيين الطيبين، أي المدنيين الذين يبدون طيبين في الظاهر». وفي فتوى لاحد الحاخامات رداً على سؤال جندي اسرائيلي في الارض المحتلة: «افضل الاغيار: اقتله، وافضل الافاعي: اسحق نخاعها».

وليس من همنا الاطالة في ايراد عشرات النصوص من هذا القبيل التي تهدف بجلاء إلى تبرير نهج العنف والعدوان الذي دأبت على اتباعه القيادة العسكرية الاسرائيلية وعلى رأسها رئيس الحكومة الحالي شارون. فجوهر الايديلوجيا الصهيونية هو هذا النزوع العنصري العدواني الذي تنضح به كتابات منظري هذه الدعوة ومؤسسي الدولة العبرية. ولذا فان مقارنتها بالنازية (على غرار تصريحات الرئيس الأسد) ليست من المبالغة في شيء، والشواهد الكثيرة قائمة على التقارب العقدي والنظري بين الدعوتين وعلى التنسيق السياسي على أعلى مستوى بين التنظيمين النازي والصهيوني في حرب ابادة اليهود.

ان ما نريد ان نخلص اليه هو ان على الجمعيات الاهلية ومنظمات حقوق الانسان العربية ،السير قدماً في مبادرة محاكمة شارون كمجرم حرب حتى ولو كان هذا الهدف المشروع عصياً على التحقق، على الأقل في الوقت الراهن. اما اتهامات اللوبيات الصهيونية للرئيس الأسد بالعنصرية ومعاداة السامية، فلا تخرج عن نطاق الحرب الاعلامية، التي دأبت على شنها هذه اللوبيات ضد الاطراف العربية المقاومة.