غضب الأقباط في مصر له رسالته واجبة التسلم

TT

الاحداث التي شهدتها مصر خلال الاسبوعين الاخيرين محملة برسالة طويلة ينبغي ان تُقرأ جيدا، مصريا وعربيا، وكما ان جسم الانسان يصاب احيانا بأعراض تكون اجراس تنبيه وانذارا لما يمكن ان يحدث مستقبلا اذا لم يتحصن المرء بالاحتياط الواجب، كذلك المجتمعات، احيانا تحل بها نوازل تصدمها، وتحمل في طياتها انذارا يحذر مما هو اسوأ مستقبلا، اذا لم يؤخذ الانذار على محمل الجد، واذا لم يستخلص الناس درسه وعبرته.

لقد افاضت الصحف ووكالات الانباء في متابعة ما جرى في مصر، لكن ألخص الحدث لمن فاته الوقوف على تفاصيله على النحو التالي: احدى الصحف الخاصة التي قامت على الاثارة والفضائح نشرت صورا لأحد الرهبان المفصولين من الكنيسة في أوضاع مشينة مع سيدات من اللاتي يترددن على أحد الاديرة للاعتراف. وحسب ادعاء الصحيفة فان الصور نقلت عن شريط قام القسيس نفسه بتصويره، اغلب الظن لابتزاز ضحاياه وتهديدهم بالفضيحة، ولم تكتف الجريدة بنشر الصور الفاضحة وانما اضافت معلومات وعناوين وصفت الدير الذي شهد الواقعة بانه تحول الى «بيت دعارة».

احدث النشر صدمة هائلة للمجتمع المصري، باعتبار ان هذه اول مرة تنشر الصحف صورا وكلاما من ذلك القبيل، وصدمة الاقباط المصريين كانت اكبر، ليس فقط ان الشريط اعطى انطباعا شوه بدرجة كبيرة صورة القسس وغيرهم من رجال الدين، وانما ايضا لان الدير الذي وصف بأنه تحول الى «بيت للدعارة» (دير المحرق بمحافظة اسيوط في صعيد مصر) هو من الاماكن المقدسة عند الاقباط، الامر الذي كان وقعه شديدا وجارحا بالنسبة للاقباط.

تصرفت السلطة بسرعة وصادرت اعداد الجريدة، التي كانت قد نزلت الى الاسواق بالفعل، ولم يمض وقت قصير حتى تجمهرت اعداد كبيرة من الشباب القبطي، واتجهت الى رئاسة الكنيسة في القاهرة، وهناك عبروا عن الغضب من خلال هتافات تخللها بعض الشطط، وكان اخفها هتاف يقول: «بالروح والدم نفديك يا صليب»، وطالبوا البابا بالتدخل لوقف العدوان على مقدسات الدين المسيحي والاساءة لرجاله.

في الوقت ذاته اهتزت السلطة بشدة، وانعكس ذلك على سلوك الحكومة والمؤسسات المختلفة والحزب الوطني الحاكم، فاستُدعى صاحب الصحيفة للتحقيق معه امام نيابة أمن الدولة، وجُمدت عضويته واتخذت اجراءات شطبه من عضوية نقابة الصحافيين، وجرى حديث عن سحب رخصة اصدار الجريدة، وتوالت بيانات الاستنكار من مختلف الجهات، بدءا بالازمة وانتهاء بنقابة الفنانين، وزار عدد من كبار المسؤولين في الدولة مقر الكنيسة الارثوذكسية للقاء البابا، والتداول معه في شأن احتواء ما جرى.

أهم ما في صدى الحدث انه صدر بحسبانه تداركا لفتنة بين المسلمين والاقباط، هددت الوحدة الوطنية، وخُشي من تطور الامر الى صدام بين الطرفين، ولذلك كان القلق الشديد داخل مصر، والفزع الذي اصاب مؤسسات السلطة بوجه أخص. ومن ثم فقد كثفت على نحو مبالغ فيه اجراءات تطويق ما جرى واحتوائه، خصوصا بعدما حدث من اشتباك بين الشباب القبطي المتظاهر وبين قوات الشرطة تم خلاله تبادل الرشق بالحجارة واستخدام خراطيم المياه، وأدى الى سقوط عشرات الجرحى.

ما هي رسالة الحدث؟

تتضمن الرسالة بنودا عدة في مقدمتها ما يلي:

* ان ثمة حساسية مفرطة في الشارع المصري حولت حادثا من هذا القبيل طرفاه صحافي منحرف مهنيا وراهب منحرف اخلاقيا، وكل منهما لا يمثل الا نفسه، الى أزمة بين المسلمين والاقباط، الامر الذي يعني ان ثمة مخزونا من التوتر بين عنصري الامة لا علاقة له بالضرورة بعملية النشر، تَحَيّن الفرصة وظهر على السطح خلال ساعات قليلة، كأنما كنا بصدد زيت غمر الساحة ولم يكن ينقصه سوى عود ثقاب لاشعال الحريق.

ان شئت مزيدا من المصارحة فلعلي اقول ان الحدث في جانب منه كشف عن مدى الهشاشة في نسيج العلاقة بين المسلمين والاقباط، بقدر ما كشف عن ان هناك مرارات لدى الطرف القبطي تحتاج الى رصد وتحر وعلاج.

اتجاه الشباب القبطي الى رئاسة الكنيسة (الكاتدرائية) للتعبير عن الاحتجاج والغضب، كان عملا غير مسبوق، اعني ان هذه هي المرة الاولى التي يحتج فيها بعض الاقباط ازاء شأن ما يخص مؤسسات الدولة، فيذهبون الى الكنيسة وليس الى الدولة، وهو ما يدعو الى التساؤل، فضلا عن الدهشة. التفسير الاقرب الى الذهن ان الكنيسة اصيبت بجرح وشوهت صورتها، فذهب الشبان الى رئاستها مطالبين اياها بالرد، لكني اميل الى تفسير اضافي ـ وليس بديلا بالضرورة ـ هو انه في ظل الهشاشة التي اشرنا اليها، ومع تراجع الثقة بين الاطراف، فلربما تصور اولئك الشبان ان وقوفهم تحت مظلة الكنيسة يوفر ظرفا لإنصافهم افضل مما يمكن ان يتوافر لهم اذا ما وقفوا تحت مظلة السلطة.

اكثر من سؤال ظل يلح عليّ طيلة الايام التي توتر فيها المناخ العام في مصر بسبب صدمة النشر. من هذه الاسئلة مثلا: لماذا اخذت المسألة بعدا طائفيا، رغم ان الصدمة عمت المجتمع المصري بأسره؟ ما علاقة ذلك بظاهرة غياب المشروع المشترك، الذي ينتظم فئات المجتمع باختلاف دياناتهم أو مذاهبهم الفكرية؟ من الاسئلة ايضا: هل لو كانت امام الجميع فرصة التعبير عن الاحتجاجات من خلال مؤسسات التمثيل الشعبي ومنظمات المجتمع المدني، يلجأ الشباب الى التظاهر والاشتباك مع الشرطة؟ من الاسئلة كذلك: لماذا تُترك المرارات مختزنة في النفوس، بحيث تتراكم حينا بعد حين، لتتحول بمضي الوقت الى قنبلة مهيأة للانفجار في أي وقت، وألا توجد وسيلة سلمية وقانونية لامتصاص الغضب والمرارة؟ اخيرا: ما دور المشكلات العامة التي تعاني منها مختلف شرائح الشعب المصري (الغلاء والبطالة وازمة السكن...الخ) في الغضب الذي عبر عنه الشباب القبطي؟

*حرية النشر والتعبير التي يساء استخدامها كثيرا في العالم العربي، لم توضع بعد في اطارها الصحيح، والصوت العالي بين المثقفين يدعو الى اطلاق تلك الحرية، بحسبان ان محاولة ضبطها عند حدود معينة من شأنه ان يقيد الابداع، وهؤلاء يتمثلون النموذج الغربي، الذي اطلق الحرية بغير حدود ـ خصوصا في الشق الاخلاقي ـ ما دام تم ذلك في نطاق القانون، وما نعتبره نحن تجاوزا وفحشا في النشر هو عند هؤلاء حرية مكفولة ومضمونة بالقانون. بالمقابل هناك من يدعو الى ممارسة تلك الحرية في حدود منظومة الاخلاق والتقاليد، وقبلها التعاليم، ولا مفر من الاعتراف بان ذلك الإشكال لم يحل بعد ولا يزال الطرفان يتجاذبان الساحة الثقافية. صحيح ان صدمة نشر صور الراهب السابق اضطر كثيرين الى التحفظ والتراجع «التكتيكي» الا ان التوافق حول المسألة لم يتم بعد.

ان الجماهير لها مشاعر، ومنظومة قيمها واجبة الاحترام، بصرف النظر عن رأي المثقفين في تلك المشاعر والقيم. لقد استنكر كثيرون خروج شباب جامعة الازهر قبل اكثر من عام، احتجاجا على طبع وزارة الثقافة المصرية كتاب «وليمة لاعشاب البحر» للكاتب السوري حيدر حيدر، اذ اعتبروا تبني الوزارة لذلك الكتاب، رغم ما يحتويه من اشارة ماسة بمقدسات المسلمين موقفا جارحا للرأي العام، وينبغي اعلان رفضه. كذلك استنكر آخرون الغضب الذي اعلن عنه البعض في مصر، رفضا للمضمون الماجن الذي قدمه المغربي محمد شكري في كتابه «الخبز الحافي» ولفت النظر ان هؤلاء التزموا الصمت ازاء غضب الشباب القبطي واحتجاجهم على نشر الصور الفاضحة للراهب والمعلومات المغلوطة والجارحة التي خصت الدين المقدس..

صحيح ان هناك فرقا في درجة الفحش في الحالتين، فذاك مصور والاخر مكتوب، الا ان النوع يظل واحدا، الامر الذي لا يخلو من مفارقة. فاستنكار غضب المسلمين تم باسم الدفاع عن حرية الابداع، والسكوت على غضب الاقباط وتأييد حظر الصحيفة تم باسم احترام المقدسات والدفاع عن الوحدة الوطنية. وتأخذ المفارقة بعدا اعمق إذا لاحظنا قبول المساس بمشاعر المسلمين الذين يمثلون 94% من المجتمع المصري، بينما رفض ذلك المساس حين تعلق الامر بالاقباط الذين يمثلون 6% فقط من المجتمع، واذ نؤيد بغير تحفظ ضرورة احترام مقدسات الاقباط ومشاعرهم، الا اننا نتساءل: لماذا لا يلتزم المثقفون ذات الموقف ازاء مشاعر المسلمين؟