الجزائر .. العلاج بلا تشخيص صحيح

TT

أشهد، بدون شبهة محاباة أو مظنة مجاملة، بأن «الشرق الأوسط» قدمت في السنوات الماضية مادة ثرية ومعلومات متكاملة ومعطيات ثابتة تناولت الشأن الجزائري طولا وعرضا وعمقا.

ولقد فتحت الصحيفة الدولية صدرها لكتابات كثيرة، أعتز أنني كنت من بين من أغرقوا بها الصحيفة، خصوصا في مرحلة الأزمة الدموية.

ومن حقي أن أشعر بالإحباط عندما أقرأ ما يشي بأن هناك من يكتب عن الجزائر بدون دراسة لما كتب وبدون اطلاع على ما نشر، مما يعطي أحياناً الإحساس بأن الجزائر أصبحت تجارة من لا مال عنده ولا بضاعة، أو بأن هناك من يحاول علاج وضعية معينة في قطر معين، فيتحدث عن الجزائر وهو يقصد باركانا فاقو.

ولست أحب الإساءة لأحد، خاصة وأنا أعرف أن حجماً كبيراً من حسن النية والقلق على مصير دولة عربية كبرى هو الذي يحرك كثيرين، لكن هذه المشاعر الطيبة لا تجعلني أتجاهل حق القارئ في المعرفة الكاملة، وتمنعني من التستر على ما أراه تواطؤاً على حساب الحقيقة، احتراماً للمنبر وللقارئ وللحقيقة، وهذا أقل القليل الذي أسجل به احترامي للدماء التي سالت والأجساد التي مزقت والحرمات التي انتهكت والمنجزات التي خربت.

ولا استطيع أن أتجاهل من يعطي لنفسه حق تحديد داء الجزائر واقتراح دوائها، ثم نكتشف من السطور الأولى أنه بعيد عن الحقيقة والواقع المعيش.

كاتب يقول بأن «المحنة المتفاقمة في الجزائر منذ ما يزيد على عشر سنوات ترجع في أصلها إلى الأيام الأولى التي أعقبت انتصار الثورة، فبدلا من إقامة الحكم الديموقراطي الذي ضحى الجزائريون بأرواحهم وأموالهم في سبيله احتكر حزب جبهة التحرير الوطني السلطة وأقام نظاماً ديكتاتورياً تربع على عرشه أحمد بن بلة أولا ثم هواري بو مدين بعده ثم الشاذلي بن جديد.. (هكذا)».

ثم يقول الكاتب بأنه «كان بإمكان تلك النخبة بأن تشكل هيئة تأسيسية تتمثل فيها مختلف قوى البلاد السياسية ومنظماتها الاجتماعية، اضافة إلى التكنوقراط من الاختصاصيين في القانون والسياسة والاجتماع».

وانتابني وأنا أقرأ هذه السطور شعور بأن الكاتب جاءنا من كوكب آخر.

وبدون جدل عقيم أوضح ما يلي:

الجزائر خرجت من ثورة التحرير مثخنة بالجراح خائرة القوى مفلسة الخزينة، وكان الاستقلال الذي انتزعته استقلالاً منقوصاً.

فقد ظلت فرنسا تملك كل البنوك وشركات التأمين والمناجم وحقول النفط وأنابيب نقله، بل وكانت تملك دار الإذاعة والتلفزيون، ولها أكثر من قاعدة عسكرية من بينها قاعدة المرسى الكبير، أقوى قاعدة بحرية جنوب المتوسط.

وكان على الدولة الوليدة أن تواجه كل ما ترتب على عودة اللاجئين والمفرج عنهم من المعتقلات والمحتشدات، وكان عليها أن تستعد لانطلاق العام الدراسي 1962 / 1963 في بلد ليس فيه خمسمائة معلم مرسم، وأقل من مائتي طبيب، وعدد من المهندسين الزراعيين والأطباء البيطريين لا يتجاوز أصابع اليد.

ولم يكن هناك عدد كاف لسياقة حافلات النقل العام أو التحكم في حركة مطار العاصمة أو القيام بمهام مؤسسة المطافئ أو ضمان مناوبات الهاتف أو الكهرباء والغاز.

لقد فر الفرنسيون الذين كانوا يمثلون الصفوة ويمسكون بكل المقدرات بين ايديهم، كما فر المرشدون في قناة السويس عام 1956، وكان لا بد من مواجهة الموقف بعزيمة الرجال وببصيرة المناضلين.

وواضح من حديث ضيف «الشرق الأوسط» أن الديموقراطية تختلط في ذهنه بالتعددية الحزبية، وهذا يتجاهل أن الأحزاب ليست مؤسسات تنشأ بقرار، بل هي أولا وقبل شيء، تنظيمات تجسد تيارات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية، موجودة على أرض الواقع، فيكون لكل تيار حزبه، المعبر عنه.

لكن الأمر يختلف عندما يكون هناك شعب يشكل، في مجموعه وفي مرحلة معينة، طبقة اجتماعية واحدة، لها نفس المطالب ونفس الاحتياجات ونفس النظرة إلى الأمور ونفس الآمال ونفس الآلام.

وكانت الجزائر في هذه الوضعية، فقد كانت بلدا دخل إلى مرحلة الاستقلال بدون طبقة رأسمالية وطنية، وبدون تكنوقراط من الاختصاصيين في كذا وكذا، كما يقول الكاتب.

كان كل شيء يجب أن يبدأ من الصفر، بمحاولة استثمار الهياكل القاعدية التي لم يتمكن الاستعمار من تخريبها في إطار سياسة الأرض المحروقة، ثم بمحاولة تجنيد كل القوى الوطنية لاسترجاع الثروات الوطنية واستكمال السيادة على كل مرافق البلاد، وهو ما جعل الجزائر ترتكب خطيئة فتح الباب أمام كثيرين لم يساهموا في العمل الثوري، أو كانوا وجوداً باهتاً في المسيرة الوطنية.

وهكذا فرض نفسه على مسيرة الأحداث شعار «استمرارية الثورة»، وتحمل مسؤولية القيادة نفس أولئك الذين قادوا البلاد نحو النصر، إذ لم تتمكن الجزائر آنذاك من استيراد قيادة جديدة من سويسرا أو السويد، للتخلص من جبهة التحرير الوطني. ولو اطلع الكاتب على أوضاع الجزائر في الستينيات والسبعينيات لوجد، بدون مجهود كبير، أن الجزائر انطلقت بكل عزم ومثابرة على درب بناء الديموقراطية الحقيقية، وهي تمكين الشعب من اختيار قياداته ومتابعتها ومحاسبتها، وإعطاؤه الفرصة لكي يقرر مصيره بنفسه ويجسد اختياراته الوطنية كما يريد.

وكانت نقطة الانطلاق هي تحقيق الحرية بمعناها الاقتصادي الاجتماعي بعد أن تم تحقيقها بالمفهوم السياسي، فلا ديموقراطية بدون حرية.

وهكذا استرجعت الجزائر مؤسسة البث الإذاعي والتلفزيوني في 1962، ثم شركات التأمين والبنوك والقواعد العسكرية في 1963 و 1964، ثم المناجم في 1966، ثم البترول في 1971.

ثم خاضت الجزائر معركة كبرى للقضاء على البطالة، أولى عوائق الحرية بالنسبة للمواطن، وأعطت أكبر ميزانية يعطيها بلد ثالث للتعليم، لأن الجهل عائق أساسي من عوائق الحرية، وضمنت حق العلاج المجاني والوقاية لكل المواطنين بحيث لم نعد نسمع عن وفاة مواطن بالسل الرئوي ولم نعد نشاهد أطفالا مصابين بشلل الأطفال، ولم نعد نسمع عن أوبئة التيفود، وارتفع معدل الأعمار بالنسبة للشباب والكهول، (وللتذكير فإن هذا كان يتم وسعر برميل البترول أقل من دولارين).

وبفضل ديناميكية التنمية بدأت الطبقة السياسية في التشكل، ولأن الديموقراطية لا يمكن أن تقوم إلا بوجود ديموقراطيين يعرفون معنى الممارسة الديموقراطية وليست جهازاً عجيباً نستورده ويعمل وحده ببطاريات شمسية، كان لا بد من تدريب المواطن على الممارسة الديموقراطية، وانطلاقاً من القاعدة.

وهكذا أنشأت الجزائر في 1967 المجالس الشعبية البلدية (عدد البلديات اليوم 1541)، ثم أقامت المجالس الشعبية الولائية في 1969 (وعددهم اليوم 48، بواقع مجلس لكل ولاية). وكانت الانتخابات تتم بالاقتراع العام المباشر والسري، ويستثنى من الحق في الترشيح، وليس في الانتخاب، من ثبت تعامله مع المستعمر السابق، وهذا لحماية المسيرة، وهو ما ثبت أنه ليس كافياً.

ويطول الحديث لكنني أبتره اليوم رفقاً بالقارئ وأختتمه بالاستنتاج الغريب للمقال الذي قرأته الاثنين الماضي فهو يقول بأنه «على مدى أربعة عقود تقريبا لم تف النخبة الحاكمة بعهدها ووعدها لشهداء الثورة، بل أخذت الجزائر في طريق معاكسة الاتجاه» ليقول بعد ذلك مباشرة «والجزائر التي كانت منذ أربعة عقود نقطة مضيئة تتطلع إليها الملايين من العرب مهددة اليوم بمزيد من الخراب والدمار». وبغض النظر عن أن نفس الرجال كانوا يقودون المرحلتين، فإن قولا كهذا يدين فترة الاستقلال بأكملها، وهو ما تقول به المراجع الاستعمارية. وقصور ذلك التحليل، الذي أؤكد أنني لا أشكك في نياته، هو أنه يتعامل مع كل مراحل الاستقلال الجزائري كمرحلة واحدة، وهو استخفاف بالواقع وبالقارئ.

ولعلي أعود إلى الحديث حول قضايا أخرى كنت أشبعتها بحثاً، مثل قضية البربرية، لكنني أكتفي اليوم بتنبيه الأشقاء إلى أن تاريخ الاستقلال الجزائري يجب أن يدرس عبر مراحله المتتالية، مرحلة الرئيس أحمد بن بلة 1962 / 1965، ثم المرحلة الأولى من ولاية الرئيس بو مدين 1965 / 1971، ثم المرحلة الثانية حتى وفاته في 1978، ثم الولاية الأولى للرئيس الشاذلي 1979 / 1984، ثم الولاية الثانية والثالثة وحتى أحداث أكتوبر 1988، ثم مرحلة الاضطرابات الارتدادية بعد الأحداث المفبركة في أكتوبر، والتي انتهت بإيقاف المسار الانتخابي في 1992، بعد أن استقيل الرئيس الشاذلي، واغتيل الرئيس بو ضياف، في جو سياسي تميز بتعددية حزبية مفتعلة (أكثر من ستين حزبا)، ثم العشرية الدموية وإلى انتخاب الرئيس عبد العزيز بو تفليقة.

ولكل مرحلة طابعها وإنجازاتها وعثراتها، وبالتالي فلا يمكن أن تدرس التجربة الجزائرية بخلط كل شيء بكل شيء، لتكون النتيجة كما يقول المصريون.. سمك لبن تمر هندي.