تصاعد حركات مناهضة العولمة وتضاؤل مكانة الأحزاب الاشتراكية

TT

اضطر البنك الدولي لتأجيل اجتماع برشلونة في 25 يونيو (حزيران) مكتفياً بعقده عن طريق الانترنت، احدى مغريات عصر العولمة وأهم أسلابه. والسبب واضح، وهو تنجب المظاهرات الشعبية التي أصبحت ظاهرة ثابتة ومتزايدة، وتعبر عن حركات اجتماعية تبدو وكأنها تستفيق من سبات عميق وقد فاجأتها الخطوات الضخمة التي مشتها العولمة، فأدركت ما تنطوي عليه سياساتها الليبرالية الجديدة، بعد ان فكت رموز هذه الحركة لتفهم آلياتها الفنية المعقدة. ان قرار البنك الدولي بإلغاء اجتماعه يمثل انتصاراً لحركة الاحتجاجات الشعبية على مستوى العالم ضد العولمة، تضاف إلى انتصاراتها في سياتيل حتى كويبيك مروراً بواشنطن ـ براج ـ ملبورن ـ أوكيناوا ونيس وبورتو هوريزونتي بالبرازيل، من دون أن ننسى المسيرة الزاباتية الضخمة في المكسيك. كل ذلك إلى حين ضم «جنوه» في يوليو (تموز) المقبل موعد اجتماع الثمانية الكبار.

عدا قطر فهل كان يخطر على البال أن جماعات صغيرة من الملتزمين باتجاهات اجتماعية محددة أو منظمات دولية غير حكومية بل وأفراد تستطيع رغم اختلاف أهدافها وأساليبها في العمل أن تتوحد جهودها لارعاب الدول الكبرى ومؤسساتها المالية ذات الطول والحول؟ لقد تجلت مظاهر خوفها في البحث المضني عن عاصمة آمنة للاجتماع المقبل لمنظمة التجارة الدولية وعزوف كل دول العالم ـ عدا قطر ـ عن قبول هذا الاجتماع. فكيف حصلت هذه الحركات الاجتماعية التي كانت متناثرة على سطح العالم على هذه الديناميكية الجديدة التي أعطتها تقارباً والتحاماً لم يكن موجوداً من قبل؟ والاجابة نجدها في سياسات العولمة التي أجبرت المجتمعات على تنفيذها رغماً عنها: تسريح العمال والموظفين بالجملة ـ عقود العمل قصيرة الأمد (عقود الزبالة كما تسمى) ـ الاستهانة بأمور البيئة ـ التخلص التدريجي من الخدمات الاجتماعية الحكومية (آخرها عرض حكومة بلير على القطاع الخاص دخول أنشطة التأمين الصحي) ـ تخفيض الانفاق العام ـ ازدياد الديون الخارجية ـ تهميش الاقليات ـ ازدياد فقر الفقراء وتضاؤل الطبقات الوسطى. كل هذه السياسات ـ وغيرها كثير لا يقل أهمية ـ هي من وراء قوة هذه الحركات وازديادها.

ومن يجهل حتى الآن ان من الشركات العالمية العملاقة ما يزيد رأسمال الواحدة منها على ميزانيات قارة بأكملها؟ ان دورها الأكيد في تسيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية أكثر بكثير جداً مما تستطيعه الحكومات نفسها، حتى لتبدو هذه الحكومات وكأنها رهنت سياداتها الاقتصادية لدى صندوق النقد، أو البنك الدولي أو غيرهما من البيوت المالية العملاقة بما يشبه رهن القروية الفقيرة لاسورتها الذهبية لدى صائغ المدينة. بل ان جداول أعمال كثير من البرلمانات الوطنية أصبحت مكتظة بالتشريعات المقصود منها تنفيذ متطلبات هذا المناخ الاقتصادي الجديد ومنحها أولوية في التشريع تسبق الكثير من التشريعات الوطنية المعتادة. هذه كلها أوضاع جديدة لم يسبقها أي حوار مشترك وانما فرضت على المجتمع الدولي فرضاً من جانب الولايات المتحدة والدول السائرة خلفها مما فجر كل هذا الغضب على مستوى العالم والغرب نفسه وفي عواصمه. فوحد بين أنصار هذه الحركة، لا فرق بين العامل الزراعي أو النقابي الصناعي أو أنصار البيئة أو الاقليات العرقية والكثير من المنظمات الدولية غير الحكومية التي تتراوح أهدافها وألوانها مع ألوان الطيف متناهي الدرجات. انه لم يحدث من قبل ان وجد هذا التآلف القوي الديناميكي من جمعيات وحركات ذات أغراض ووسائل مختلفة جمعها كلها هدف واحد. وفي الحشد الجماهيري الذي عقد في «بورتو هوريزونتي» بالبرازيل جمع الحوار جمعيات زراعية فرنسية مع حركة «المحرومين من الأرض» البرازيلية وعمال صناعيين من الأرجنتين وكوريا. جمعها كلها مناهضة حركة عولمة يقودها «عميان» لا يرون في العالم كله الا شيئاً واحداً اسمه «الاقتصاد»، ان هذه التشكيلات الاجتماعية التي كانت حتى وقت قريب مقتصرة على النظر إلى مصالحها الخاصة أو الطبقة التي تنتمي اليها وجدت نفسها متجهة نحو مشاركة جمعيات وتشكيلات اجتماعية ان تكن مختلفة عنها في المقصد الا انه تجمعها وحدة النظر إلى العالم، وترى نفسها تتحرك بسرعة الضوء للتوصل إلى مواقف مشتركة وتنظيم صفوفها في اي عاصمة في العالم باستثناء قطر. ورغم عدم وجود تكوين دولي واحد يشملها جميعاً الا انها مسموعة تتردد أصداؤها في كل الدنيا بينما تلهث خلفها أجهزة الاعلام العالمية لتتعرف معالم هذه الحركة الجديدة.

درجة قبيحة من الفقر وليس غريباً ان تحقق هذه الحركة الشعبية على مستوى العالم كل هذا التأثير الذي حققته، فقادة العولمة وأنصارها ينسون أو يتناسون في غمرة حماسهم في الدفاع عنها ان العالم لم يحدث ان وصل إلى درجة قبيحة من الفقر كما بلغها اليوم. فكيف يمكن للإنسانية ـ وأنصار العولمة من الهاتفين باسمها ـ ان ترى خمسة آلاف شخص يموتون جوعاً يومياً؟! وتتم هذه الابادة الصامتة مع كفاية موارد الطبيعة في العالم لتغذية ضعف سكان العالم الحاليين. ومن مجموع ستة آلاف مليون نسمة سكان العالم كله يعيش منها على أقل من دولارين يومياً 2800 مليون نسمة، منها 1200 مليون نسمة يعيشون على دولار واحد. كما لم تنجح الأمم المتحدة في تنفيذ الوعد الذي قطعته الدول الصناعية الكبرى من عدة سنوات لتخصيص نسبة 0.07% من ناتجها القومي للدول الأكثر فقراً، ولو ان ذلك قد تحقق لكان انجازاً ضخماً لهذه الدول. حتى مؤتمر الأمم المتحدة الثالث للدول الأقل تقدماً الذي عقد في بروكسل في مايو (أيار) الماضي، فكل ما اهتم البيان الصادر عنه بابرازه كان «اعتراف» هذه الدول لأول مرة بأن الفساد الداخلي يعتبر اهم اسباب الفقر عندهم. والمعنى من البيان واضح وهو غسل العالم المتقدم أيديه من هذه الدول، لكن الفساد أيضاً غير قاصر على أفريقيا وحدها كما يبين التقرير السنوي الذي أصدرته منظمة «الشفافية الدولية» Trans Parency International الذي نشر في 27 يونيو (حزيران) الماضي.

توفير المعلومة وتوفير المعرفة من ناحية أخرى، فمن أهم مغريات العولمة دعوى انتفاع الشعوب جميعاً بما توفره تكنولوجيا المعلومات من منافع، لكن كما أوضحت الدراسات فهذه المنافع الموعودة لن ينتفع بها إلا 15% فقط من مجموع سكان العالم، أما بقيته فما تزال تعيش نسبة كبيرة منه عصورها الوسطى. فهي ما تزال تحلم بمياه نظيفة وصرف صحي أو عمل يتقاضى أجره أو من يشخص له علته ومداواتها. وقد نشر أن 65% من سكان العالم لم يستخدموا التليفون مرة واحدة في حياتهم حتى الآن. ويرتبط بموضوع تكنولوجيا المعلومات ضرورة التمييز بين توفير المعلومة وهذا سهل عندما تتوفر هذه التكنولوجيا وبين توفير المعرفة وهذا شيء مختلف تماماً لأنه أمر مرتبط بوضوح بالمسألة التعليمية وما تستلزمه من امكانيات لتنمية ملكات وقدرات هذا المخلوق البشري. وهذا ما لا توفره التكنولوجيا كمصدر للمعلومة ولكن يوفره مجتمع نال حظه العادل من التنمية الاقتصادية والاجتماعية من ظروف عالم متعاون لا عالم متناحر كل مداره المنافسة التي كثيراً ما تكون ظالمة.

وفي ضوء هذا النسق السياسي الجاري بكل اتجاهاته الليبرالية ماذا تبدو الأحزاب الاشتراكية في العالم فاعلة أمام هذه الموجة العاتية التي أطاحت أو تجتهد لاطاحة كثير من المجتمعات التي كانت حتى وقت قريب تنعم ولو بالحد الأدنى من الاستقرار؟ وعلى وجه التحديد ماذا فعلت بالفعل حتى اليوم؟ قليل، أو أقل منه. لقد أصاب الأحزاب الاشتراكية الجمود وكأن العولمة قد ألجمتها عن الحركة ولم تعد تدري ماذا تفعل. ومثلها ـ لكونهما في قارب واحد ـ النقابات العمالية. فالمكاسب النقابية التي حققتها كثير من دول العالم النامي بالذات على مدى قرون قد تبدد أغلبها خلال فترة زمنية قصيرة حيث ترجح الآن كفة أصحاب العمل لا العمال. إن وقوف ألوف الشباب يومياً أمام القنصليات الأوروبية في كثير من دول أميركا اللاتينية انتظاراً لاذن بالهجرة ـ بعد ان كانت دولهم موئلاً للهجرة ـ لأبلغ تعبير عن الدراما الحياتية لألوف بل لملايين الأفراد الذين فقدوا ليس فقط أعمالهم ومصادر عيشهم بل وفي صدد التنازل أيضاً عن أوطانهم.

هذا الوضع الذي أصبحت عليه الأحزاب الاشتراكية هو من اكبر اسباب أو دعاوى نجاح «الحركة الشعبية العالمية المناهضة» لما يسمى «النظام الاقتصادي العالمي الجديد». فالاشتراكيات التي تبدو الآن وقد جذبها اليها بشدة مغناطيس سياسات اليمين تبدو قد أفرغت من مضمونها أو ربما شعرت انها أضعف من أن تقاوم. لقد بات مثقفو اليسار في أوروبا على قناعة من أنه على أحزاب اليسار أن تنهج مسلكاً جديداً اذا ارادت ان تتعادل كفتها مع القوى التكنولوجية الجديدة وبحيث يكون فيها الرد على العولمة أو لمنافسة الحركات المناهضة لهذه العولمة على الأقل.